قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم
♦♦♦ معنى كلمة الْمُخْبِتِينَ في القرآن الكريم ♦♦♦
المُخْبِتِينَ ﴿٣٤ الحج﴾ الراضين المطمئنين لقضاء الله وقدره
بَشـّر المُخبتين﴿٣٤ الحج﴾ المُطمئنين إلى الله أو المُتواضعين له
المخبتين ﴿٣٤ الحج﴾ المخبتين: المطمئنين إلى الله، الخائفين. أو المتواضعين. الإخبات: الخشوع و التواضع.
خبت الخبت: المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل: قصد الخبت، أو نزله، نحو: أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، قال الله تعالى: ﴿وأخبتوا إلى ربهم﴾ [هود/23]، وقال تعالى: ﴿وبشر المخبتين﴾ [الحج/34]، أي: المتواضعين، نحو: ﴿لا يستكبرون عن عبادته﴾ [الأعراف/206]، وقوله تعالى: ﴿فتخبت له قلوبهم﴾ [الحج/54]، أي: تلين وتخشع، والإخبات هاهنا قريب من الهبوط في قوله تعالى: ﴿وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ [البقرة/74] .
◘◘◘ الخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون
وقال مجاهد : المخبت المطمئن إلى الله عز و جل قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض
وقال الأخفش : الخاشعون
وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم
وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا
وهذه الأقوال تدور على التواضع والسكون إلى الله عز وجل والطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى .
♦♦♦ التحليل الموضوعي ♦♦♦
◘◘◘ أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ..
وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
◘◘◘ قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج 34 ، 35]
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} بخير الدنيا والآخرة.
والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده.
ثم ذكر صفات المخبتين فقال:
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده.
{ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره.
{ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة.
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ { من } المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله.
◘◘◘ أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب..
ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وقال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) .
◘◘◘ وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [هود : 23]
قول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم، أي: صدقوا واعترفوا، لما أمر الله بالإيمان به، من أصول الدين وقواعده.
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان.
{ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه.
{ أُولَئِكَ } الذين جمعوا تلك الصفات
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه، ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.
◘◘◘ قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35 سورة الحج ).
وقال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (23 سورة هود).
قال الرازي : { فإلهكم إله واحد } فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة ، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه ، ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده { وَبَشّرِ المخبتين } والمخبت المتواضع الخاشع .
◘◘◘ دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا ، فَقَالَ : مَا هَا هُنَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : بَلَى ، هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : أَبُو حَازِمٍ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ ، فَجَاءَهُ ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ : وَأَيَّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ وَلَمْ تَأْتِنِي . فَقَالَ لَهُ : أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ ، مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا . فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : صَدَقَ الشَّيْخُ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ آخِرَتَكُمْ ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ ؛ فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ . قَالَ : صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ ؟ قَالَ : أَمَّا الْمُحْسِنُ ؛ فَكَالْغَائِبِ يُقْدِمُ عَلَى أهله ، وما الْمُسِيءُ ؛ فَكَالآبِقِ يُقْدِمُ عَلَى مَوْلاهُ . قَالَ : فَبَكَى سُلَيْمَانُ ، وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي ! مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْلَمْ مَا لَكَ عِنْدَ اللهِ . فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! أَيْنَ نُصِيبُ تِلْكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : عِنْدَ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 13 ) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) [ الانفطار : 13 - 14 ] . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : { قَرِيبٌ من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] . قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : مَنْ تَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا أَسْمَعُ الدُّعَاءِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ [ إِلَيْهِ ] . قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةُ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : جُهْدُ الْمُقِلِّ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اعْفِنَا مِنْ هَذَا . قَال سُلَيْمَانُ : نَصِيحَةٌ بَلَّغْتَهَا . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إِنَّ نَاسًا أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إِجْمَاعٍ مِنْ رَأْيِهِمْ ، فَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهَا ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا وَمَا قِيلَ لَهُمْ ؟ ! فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا شَيْخُ : فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَذَبْتَ ! إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! كَيْفَ لَنَا أَنْ نَصْلُحَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : تَدَعُوا التَّكَلُّفَ ، وَتَتَمَسَّكُوا بِالْمُرُوءَةِ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! كَيْفَ الْمَأْخَذُ لِذَلِكَ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ : تَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّهِ وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ . فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : اصْحَبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ وَتُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْكَ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذلك . فقال سُلَيْمَانُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلا فَيُذِيقَنِي ضَعْفُ الْحَيَاةِ وَضَعْفُ الْمَمَاتِ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَشِرْ عَلَيَّ يَا أَبَا حَازِمٍ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اتَّقِ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ ، وَأَنْ يَفْقِدَكَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكَ . قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! ادْعُ لنا بخير . فقال أَبُو حَازِمٍ : اللهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ ؛ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ ؛ فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ . قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : عِظْ . قَالَ : قَدْ أَوْجَزْتَ ، إِنْ كُنْتَ وَلِيَّهُ ، وَإِنْ كُنْتَ عَدُوَّهُ ؛ فَمَا يَنْفَعُكَ أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ بِغَيْرِ وَتَرٍ . فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا غُلامُ ! إِيتْ بمئة دِينَارٍ . ثُمَّ قَالَ : خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لا حَاجَةَ لِي بِهَا ، إِنِّي أَخَافُ أن يكون لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي ، إِنَّ مُوسَى [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهَا الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ ، فَقَالَ : مَا لَكُمَا عَوْنٌ ؟ قَالَتَا : لا . فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ، فَقَالَ : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير فقير } [ القصص : 24 ] ، وَلَمْ يَسَلِ اللهَ أَجْرًا عَلَى دِينِهِ ، فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافُ ؛ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا ، وَقَالَ : مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْمَ ؟ ! قَالَتَا : وَجَدْنَا رَجُلا صَالِحًا فَسَقَى لَنَا . فَقَالَ : فَمَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ ؟ قَالَ : قَالَتَا : سَمِعْنَاهُ يَقُولُ : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ من خير فقير } [ القصص : 24 ] . قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِعًا ، تَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِحْدَاكُمَا فَتَقُولُ لَهُ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا . فَأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ - قَالَ : عَلَى إِجْلالٍ - ؛ قَالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا . قَالَ : فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَكَانَ طَرِيدًا فِي فَيَافِي الصَّحْرَاءِ ، فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ أَمَامَهُ ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ ، فوصفتها له ، وكانت ذا خُلُقٍ ، [ فَقَالَ لَهَا : كُونِي خَلْفِي ] ، وَأَرِينِي السَّمْتَ . فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ دَخَلَ ، إِذَا طَعَامٌ مَوْضُوعٌ ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ : أَصِبْ يَا فَتًى مِنْ هَذَا الطَّعَامِ . قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : أَعُوذُ بِاللهِ . قَالَ شُعَيْبٌ : وَلِمَ ؟ قَالَ مُوسَى : لأَنَّا فِي [ أَهْلِ ] بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا . قَالَ شُعَيْبٌ : لا وَاللهِ ! وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي ، نُطْعِمُ الطَّعَامَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ . فَجَلَسَ مُوسَى ، فَأَكَلَ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عِوَضًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي ، فَلأَنْ أَرَى أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذَهَا . فَكَأَنَّ سُلَيْمَانَ أُعْجِبَ بِأَبِي حَازِمٍ . فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَيَسُرُّكَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ ؟
قَالَ الزُّهْرِيُّ : إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً ، مَا كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ قَطُّ . فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ : صَدَقْتَ ، إِنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي ، وَلَوْ أَحْبَبْتَ اللهَ ؛ لأَحْبَبْتَنِي . قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَتَشْتِمُنِي ؟
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ على جاره حَقًّا ؟؟ فَقَالَ أبَوُ حَازِمٍ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ ، وَكَانَتِ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ ؛ فَكَانَتِ الْعُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ ، فَاسْتَغْنَتِ الأُمَرَاءُ عَنِ الْعُلَمَاءِ ، وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ؛ فَشُغِلُوا وَانْتَكَسُوا ، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا هَؤُلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزَلِ الأُمَرَاءُ تَهَابُهُمْ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضُ ؟ !
قَالَ : هُوَ مَا تَسْمَعُ . قَالَ : وَقَدِمَ هِشَامٌ المدينة مرة أخرة ، فَأَرْسَلَ إلى أَبِي حَازِمٍ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! عِظْنِي وَأَوْجِزْ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ : اتَّقِ اللهَ ! وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ حَلالَهَا حِسَابٌ ، وَحَرَامَهَا عَذَابٌ . قَالَ : لَقَدْ أَوْجَزْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ . فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! ارْفَعْ حَوَائِجَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ! قَدْ رَفَعْتُ حَوَائِجِي إِلَى مَنْ لا تُخْتَزَلِ الْحَوَائِجُ دُونَهُ ؛ فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَنِعْتُ بِهِ ، وَمَا مَنَعَنِي مِنْهَا رَضِيتُ ، وَقَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ ؛ فَإِذَا هُوَ نِصْفَانِ : أَحَدُهُمَا لِي ، وَالآخَرُ لِغَيْرِي ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ لِي ؛ فَلَوِ احْتَلْتُ فِيهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الَّذِي قُدِّرَ لِي فِيهِ ، وَأَمَّا الَّذِي لِغَيْرِي ؛ فَذَلِكَ الَّذِي لا أُطْمِعُ نَفْسِي فِيمَا مَضَى ، وَلَمْ أطعمها فِيمَا بقي ، وَكَمَا مُنِعَ غَيْرِي رِزْقِي كَذَلِكَ مُنِعْتُ رِزْقَ غَيْرِي ؛ فَعَلَى مَا أَقْتُلُ نَفْسِي ؟ !.
◘◘◘ وعن أبي سعيد المقبري قال لما طعن أبو عبيدة قال يا معاذ صل بالناس فصلى معاذ بالناس ثم مات أبو عبيدة بن الجراح فقام معاذ في الناس فقال يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحا فإن عبد الله لا يلقى الله تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له ثم قال إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبدا قط أقل غمزا ولا أبر صدرا ولا أبعد غائلة ولا أشد حبا للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه رحمه الله ثم أصحروا للصلاة عليه فوالله لا يلي عليكم مثله أبدا فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتى به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلا أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا ومن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذي يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين.
◘◘◘ عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ) ومن قرأ مائة آية كتب له قنوت ليلة ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين ومن قرأ أربع مائة كتب من المخبتين ومن قرأ ألف آية أصبح وله قنطار ألف ومائتا أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض ومن قرأ ألفي آية كان من الموجبين ). أخرجه الطبراني .