صفات المؤمنين
◘◘◘ قال سبحانه وتعالى:
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات / 14
أخي أخوتي الأعزاء اعلموا أن هناك فرق بين الإسلام والإيمان فالإسلام له شكل ظاهري قانوني فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام.
أما الإيمان فهو أمر واقعي وباطني ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً.
الإسلام ربما كان عن دوافع متعددة ومختلفة بما فيها الدوافع الماديّة والمنافع الشخصية، إلا أن الإيمان ينطلق من دافع معنوي ويسترفد من منبع العلم وهو الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة.
◘◘◘ قال الله تعالى في كتابه الكريم :
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) والَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8 ) والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) سورة المؤمنون .
◘◘◘ إن القرآن الكريم صنف الناس وأعطاهم صفات بها يتميز الخبيث من الطيب، والصالح من الطالح، والمؤمن له صفات وصفه الله بها كما قال ربنا سبحانه وتعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) (آل عمران 179)
◄الصفة الأولى من صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون، بحيث لا يشغلهم شيء وهم في الصلاة عن مناجاة ربهم، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة. ومن مظاهر الخشوع أن ينظر المصلي وهو قائم إلى موضع سجوده وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشيء من جسده، فقد ابصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
◄ الصفة ثانية من صفات هؤلاء المؤمنين قوله سبحانه (والذين هم عن اللغو معرضون).
واللغو: ما لا فائدة فيه من الأقوال والأعمال، فيدخل فيه اللهو والهزل وكل ما يخل بالمروءة وبآداب الإسلام.أي أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم ينزهون أنفسهم عن الباطل والساقط من القول أو الفعل،
ويعرضون عن ذلك في كل أوقاتهم لأنهم لحسن صلتهم بالله تعالى اشتغلوا بعظائم الأمور، وهم كما وصفهم الله سبحانه في آية أخرى (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
◄أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقد بينها سبحانه بقوله: (والذين هم للزكاة فاعلون) ويرى اكثر العلماء أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأموال.
أي أن من صفات هؤلاء المؤمنين انهم يخرجون زكاة أموالهم عن طيب نفس.
◄الصفة الرابعة من صفاتهم فقال: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين).. أي أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم أعفاء ممسكون لشهواتهم لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم التي أحلهن الله تعالى لهم، أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسرارى.. وذلك لأن من شأن الأمة المؤمنة إيمانا حقا أن تصان فيها الأعراض، وأن يحافظ فيها على الأنساب.
◄أما الصفة الخامسة من صفات هؤلاء المفلحين فقد عبر عنها سبحانه بقوله: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) والأمانات تشمل جميع التكاليف التي كلفنا الله بأدائها كما تشمل الأموال المودعة، والأيمان والنذور والعقود وما يشبه ذلك. والعهود تشمل كل ما يطلب من المؤمن الوفاء به من حقوق الله تعالى وحقوق الناس. أي أن من صفات هؤلاء المفلحين انهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات ويوفون بعهودهم مع الله تعالى ومع الناس، ويؤدون ما كلفوا بأدائه من دون تقصير أو تقاعس وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم إلا إذا أديت فيها الأمانات وحفظت فيها العهود.
◄الحفاظ على الصلاة
أما الصفة السادسة والأخيرة من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين فهي قوله تعالى: (والذين هم على صلواتهم يحافظون) أي أن من صفاتهم أنهم يحافظون على الصلوات التي أمرهم الله بأدائها محافظة تامة بأن يؤدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والآداب والخشوع ولقد بدأ سبحانه صفات المؤمنين المفلحين بالخشوع في الصلاة وختمها بالمحافظة عليها للدلالة على عظم مكانتها وسمو منزلتها.
وبعد أن بين سبحانه تلك الصفات الكريمة التي تحلى بها أولئك المؤمنون المفلحون وهي صفات تمثل الكمال الإنساني في أنقى صوره.
بين سبحانه ما اعد لهم من حسن الثواب فقال: (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) والفردوس هو أعلى الجنات وأفضلها وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر انهار الجنة).
◘◘◘ كما تحدث سبحانه وتعالى عن صفات عباد الرحمن فيقول:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) سورة الفرقان.
◘◘◘ أن اختيار اسم المؤمنين لهذه السورة لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، وممّا يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين.
تقول الآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} كلمة (أفلح) مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، والحقيقة أنّ المنتصرين يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً بضمّ الفلاح المادّي والمعنوي، ويكون الاثنان للمؤمنين.
◘◘◘ يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}.
إن أول صفة لـ: (عباد الرحمن) هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقّة ـ من أسلوب مشيته.
نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.
◘◘◘ لقد رأينا بأُم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القرآن أيضاً، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أُنوفهم، تُرى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر.؟!
نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعلامة الأُولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.
فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (7) فلنفس هذا السبب أيضاً، وهو أن التواضع روح الإيمان.
حقّاً إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود، فسيعلم كم هو ضئيل حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته كالجبال، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة إلى الأفلاك العظيمة.
ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليلا على الجهل المطلق.!؟
◄عن النّبي (صل الله عليه وسلم)، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوماً ما، فرأى جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة، فقال: رسول الله (صل الله عليه وسلم): أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقاً، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال (صل الله عليه وسلم): (المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!.(
◄الصفة الثّانية لـ (عباد الرحمن) الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}.
السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشيء عن الضعف.
السلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.
والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.
◄وتتناول الآية الثّانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}.
في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكرُ الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عزَّ وجلّ، فيقضون شطراً من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.
ورغم أن جملة (يبيتون) دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإنّ ذلك يكون في بعض الموارد.
كما أن تقديم (السجود) على (القيام) بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدّم على السجود عملياً في حال الصلاة.
◄الصفة الرّابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}. أي شديداً ومستديماً. {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً}.
و مع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنَّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوّة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصراً أمام الله.
كلمة (غرام) في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الإنسان. ويطلق (الغريم) على الشخص الدائن، لأنّه يلازم الإنسان دائماً من أجل أخذ حقّه.
ولعل الفرق بين (مستقراً) و(مقاماً) أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم (مقام)، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي (مستقر)، وبهذا الترتيب يكون قد أُشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم.
◄القرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص في إرتباط مع الله، ويدعوه بتضرّع في حالة تسود جسمه كلّه، فيرى نفسه ذرّة إزاء الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له.
وإن لحظات هذه الصلاة درساً للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه.
◄قد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صل الله عليه وسلم) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلّي قوله: (أمّا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه).
إشارة منه (صل الله عليه وسلم) إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدّون صلاتهم بخشوع حتّى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (صل الله عليه وسلم) (إنّه كان يرفع بصره إلى السّماء في صلاته، فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض).
وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع ممّا تذكره الآية {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء، لأنّ (اللغو) يعني الأعمال التافهة غير المفيدة، وكما قال بعض المفسّرين فإنّ اللغو كلّ قول أو عمل لا فائدة فيه، وإذا فسّر البعض اللغو بالباطل.وبعض فسّره بالمعاصي كلّها، وآخر بمعنى الكذب وآخر: السباب أو السباب المتقابل والبعض الآخر قال: إنّه يعني الغناء واللهو واللعب وآخر: إنّه الشرك. فإنّ هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.
وطبيعي أنّ اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط، وإنّما يعني الآراء التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربّه وتشغله بها دون الاُمور المفيدة، إذن فاللغو يتضمّن كلّ هذا، والحقيقة أنّ المؤمنين لم يخلقوا من أجل الإنشغال بآراء باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، كما قال القرآن الكريم.
◄وتشير الآية الثّالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.
ربّما تكون السورة مكّية، نزلت في وقت لم تشرّع فيه الزكاة بعد بمعناها المعروف، لذلك نجد إختلافاً بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، ولكن الذي يبدو أصوب هو أنّ الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنّما هناك أنواع كثيرة منها مستحبّة، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة، إلاّ أنّ الزكاة المستحبّة كانت موجودة قبل هذا.
◄ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفّة بشكل تامّ، واجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يحفظونها ممّا يخالف العفّة {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}.
بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمردّاً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
إنّ عبارة المحافظة على (الفروج) قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوث بالإنحرافات الكثيرة.
أمّا عبارة {أَزْوَاجِهِمْ} فهي تشمل الزوجين الذكر والاُنثى، ويمكن أن تكون عبارة {غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارة إلى الرأي الخاطىء عند المسيحيين الذي أصبح يشكّل إنحرافاً في عقيدتهم .
◄وأشارت الآية الثامنة إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} إنّ المحافظة على (الأمانة) بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الالتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة.
وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحقّ والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقّها. ويحرسونها ما داموا أحياءاً.
ويرثها أبناؤهم الذين تربّوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.
◘◘◘ بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}.
اُولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (الفردوس) ـ على قول ـ هي مفردة رومية. وذهب آخرون إلى أنّها عربية، وقيل فارسية بمعنى (البستان).
أو بستان خاص اجتمعت فيه جميع تسميتها بالجنّة العالية، وأفضل البساتين.
ويمكن أن تكون عبارة (يَرِثُونَ) إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أنّ الإنسان يبذل جهوداً واسعة ويضحّي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرّب إلى الله، إلاّ أنّ هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأنّ المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقّة.
◄روي عن النّبي الأكرم (صل الله عليه وسلم) (ما منكم من أحد إلاّ وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النّار ورث أهل الجنّة منزله). كما يمكن أن تكون عبارة (يرثون) في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام، وعلى كلّ حال فإنّ هذه المنزلة العالية ـ حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه ـ خاصّة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنّة الآخرين في منازل أقلّ أهميّة من هؤلاء المؤمنين.
◘◘◘ الخشوع روح الصلاة◘◘◘
إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجّه الباطني إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلّي، هو روح الصلاة. والخشوع ما هو إلاّ توجّه باطني مع تواضع. وعلى هذا يتبيّن أنّ المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة كجسم بلا روح، بل إنّ جميع توجّههم إلى حقيقة الصلاة .
وهناك عدد كبير من الناس يودّ بشوق بالغ أن يكون خاشعاً في صلاته، إلاّ أنّه لا يتمكّن من تحقيق ذلك.
ولتحقيق الخشوع والتوجّه التامّ إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات، أُوصي بما يلي:
◄نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيراً عظيماً، حتّى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.
الاهتمام بالأمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسّه، وكلّما تمكّن الإنسان من التخلّص من مشاغله حصل على توجّه إلى الله في العبادة.
◄اختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا فإنّ الصلاة مع انشغال البال بغيرها تعدّ مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس أو قبال المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن كانت أبسط بناءً وأقلّ زخرفة واُبّهة، ليكون التوجّه كلّه لله فاطر السموات والأرض.
◄اجتناب المعاصي عامل مؤثّر في التوجّه إلى الله، لأنّ المعصية والذنب تبعد الشقّة بين قلب المسلم وخالقه.
◄معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثّر كبير على ذلك. ويساعد على ذلك أداء المستحبّات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.
◘◘◘ طريقة مشي المؤمنين◘◘◘
التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحياناً أن يتوهم البعض في التواضع ضعفاً وعجزاً وخوراً وكسلا، وهذا النمط من التفكير خطير جدّاً.
التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع.
◄في سيرة النّبي (صل الله عليه وسلم) أن أحد أصحابه يقول: (مارأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول اللّه (صل الله عليه وسلم)، كأنّما الأرض تطوى له، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير مكترث).
وورد في حديث آخر، في حالات النّبي( صل الله عليه وسلم): (قد كان يتكفأ في مشيه كإنّما يمشي في صبب).
يعني حينما كان الرّسول الأكرم (صل الله عليه وسلم) يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال، كأنّما يمشي في منحدر.
على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب (عباد الرحمن).
◘◘◘ البخل والإسراف◘◘◘
لا شك أنّ (الإِسراف) واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات، فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.(13)
والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.(14)
◘◘◘ يتحدث سبحانه عن صفات أخرى فيقول◘◘◘
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) سورة الفرقان
◄ميزة (عباد الرحمن) السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}.
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والاجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.
◄الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الاحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: {وَلا يَزْنُونَ}.
إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.
وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}.
قال بعضهم: إن (إثم) بمعنى الذنب و(آثام) بمعنى عقوبة الذنب.
ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم (صل الله عليه وسلم)، قال: سألت رسول الله (صل الله عليه وسلم): أي الذنب أعظم.؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قال: قلت: ثمّ أَيُّ.؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) قال: قلت: ثمّ أيُّ.؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك) فأنزل الله تصديقها.
◘◘◘ أن القرآن المجيد ، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.
كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الاستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.
◘◘◘ كيف يبدل الله (سيئات) أولئك (حسنات)؟◘◘◘
◄تبديل السيئات حسنات:
هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:
حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والانقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضي، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.
أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات.
◄عن أبي ذر: قال: قال رسول الله (صل الله عليه وسلم): (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه، وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقرّ ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيراً قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا.؟) قال: ورأيتُ رسول الله (صل الله عليه وسلم) ضحك حتى بدت نواجذه، ثمّ تلا: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.
◄الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}.
يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.
لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسناً، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلاّ إذا استمدَّ من الدافع الربّاني.
◘◘◘ ما الحكمة من أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بأوصاف كثيرة.؟.◘◘◘
لأن الإنسان دائماً يتألق نفسه, الإنسان يسخط من رزقه, لكنه يثني على عقله.
فالإنسان من طبيعته: أنه يتملق نفسه, فكل يدعي أنه مؤمن, أما إذا قرأت الأحاديث الصحيحة التي وصف الله بها المؤمنين, يجب أن تضع نفسك في موضع الموازنة, هل هذه الصفات تنطبق عليه؟.
مثلاً: لو أن واحداً من الناس, ادعى أنه يحمل إجازة في اللغة الإنكليزية, هذه دعوى, قلنا له: اقرأ هذه الأسطر, لم يقرأ, ذكرنا له تعبيراً لم يفهم, اكتب, لا يكتب, ولا يفهم, ولا يقرأ, ولا يسمع, معنى: دعواه باطلة.
فحتى الإنسان ما يتملق نفسه, ما يعيش بوهم, كل يدعي أنه مؤمن, لكن المؤمن له صفات.
محور درسنا اليوم: كلمة المؤمن, حيثما وردت في كتاب رياض الصالحين, وهو من أجمع كتب حديث, وكل أحاديثه صحيحة.
من صفات المؤمن :
◄مهما كانت الظروف لا يبدل ولا يغير :
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(عجبت لأمر المؤمن, ﺇن أمره كله له خير, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمنين, إن أصابته سراء شكر فكان خير له, وﺇن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
أكثر الناس في الرخاء, يحمدون الله ويشكرونه, أما عند أول بادرة مشكلة, تجده ساء ظنه بالله, أساء الظن بالله, أهمل عبادته.
فالإنسان الذي يتغير, انظر تغير الظروف, ليس مؤمناً كاملاً كما قال عليه الصلاة والسلام.
◄منعطف خطير :
أيها الأخوة, الله عز وجل قال:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾[سورة آل عمران الآية:146]
حينما قال الله عز وجل:
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾[سورة الأحزاب الآية:10]
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾[سورة الأحزاب الآية:11]
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾[سورة الأحزاب الآية:12]
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾[سورة الأحزاب الآية:23]
معناها: تغير ظنك بالله مع تغير الظروف, تغير عبادتك مع تغير الظروف, تغير استقامتك مع تغير الظروف, هذا ينفي عنك الإيمان الكامل, أما المؤمن الإيمان الكامل:
(ﺇن أصابته سراء شكر فكان ذلك له خير, وﺇن أصابته ضراء صبر فكان ذلك له خير).
وليس ذلك لغير المؤمن, التغيير: أن في العقيدة, أو في حسن ظنك بالله, أو في العبادة, أو في السلوك, أو في الإقبال والإعراض, إذا حصل تغييراً مع الظروف, عليك أن تشمر على ساعد الجد, وأن تجدد إيمانك, المؤمن الصادق: لا يغير ولا يبدل:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[سورة آل عمران الآية:146]
هذه أول خاصة؛ فسوء الظن, أو حسن الظن في العبادة: السلوك, الاستقامة, عقيدة, عبادة, سلوك, ﺇن تبدلت وتغيرت, وفق المعطيات والظروف, وإقبال الدنيا وإدبارها, معناها: ليس هذا هو المؤمن الذي أراده الله عز وجل, المؤمن لا يبدل ولا يغير:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾[سورة الحج الآية:11]
◄هذا ما يضع الله به المؤمن :
أيها الأخوة, الله عز وجل لا يمكن إلا وأن يضع المؤمن في امتحان دقيق:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[سورة العنكبوت الآية:2]
◄لا بد من امتحان:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[سورة البقرة الآية:155]
إذا السوق حامي, تجد التاجر متألق, ويتحدث بالدين, ويتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويريد أن يعمل أعمالاً صالحة, أما إذا كان السوق برد يبرد, تبتر همته, المؤمن الكامل لا يتأثر بالظروف, لأنه يعامل خالق الكون, يعامل الله عز وجل, هذه أول صفقة.
◄محبته للمؤمنين يؤلمه ما يؤلمهم, ويفرحه ما يفرحهم :
الصفة الثانية: في الحديث المتفق عليه:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان, يشد بعضه بعضاً).
[أخرجه النسائي في سننه]
يعني: تعاونك مع أخوانك من علامة إيمانك, محبتك لإخوانك من علامة إيمانك, أن تخفف عنهم بعض المتاعب من علامة إيمانك, فالتعاون من صفات المؤمن, والتنافس من صفات المنافس, لذلك قيل:
(لا بد للمؤمن من كافر يقاتله, ومن منافق يبغضه, ومن مؤمن يحسده).
إذا المؤمنون تحاسدوا, هبط مستواهم جميعاً.
العلامة الثانية: أن تحب المؤمنين, أن تعاونهم, أن يؤلمك ما يؤلمهم, أن يفرحك ما يفرحهم, أن يسعدك ما يسعدهم, لذلك: أصاب أحد المؤمنين خير, تحس أنه خير, لك إنسان ارتقى, إنسان نجح في عمل, إنسان نجح في زواج, نجح في شهادة, مؤمن من أخوانك, إن فرحت له فرحاً حقيقياً, فأنت مؤمن ورب الكعبة, أما المنافق:
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾
[سورة آل عمران الآية:120]
فهذه علامة ثانية.
(المؤمن للمؤمن كالبنيان, يشد بعضه بعضاً).
◄يتميز بحسن الخلق :
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث عن المؤمن:
(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن).
[أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما]
الإيمان: حسن الخلق, الإيمان يعني: الشجاعة, الإيمان يعني: الكرم, الإيمان يعني: الحلم, الإيمان يعني: العفو, الإيمان يعني: المسامحة, الإيمان يعني: التواضع.
(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن).
[أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما]
يعني: إذا قلت: مؤمن, معنى ذلك: أنه ذو أخلاق حسنة, فإذا كانت أخلاقه سيئة, كان سبب التنفير من الدين, وكان في مستوى لا يرضي الله أبداً, وأبرز ما تظهر أخلاقه في بيته, لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(خيركم خيركم لأهله).
[أخرجه الترمذي في سننه]
طبعاً: إنسان في بيته, لا يوجد عليه رقابة, ولا يخش شيئاً, فإذا كان أخلاقياً في بيته, فهو أخلاقي قطعاً مع الناس, أما إذا كان خارج البيت لطيف, ومهذب, وفي البيت شرس, فهذا اللطف والتهديد, ليس أخلاقاً ترضي الله, لكنها أخلاق نفعية, مبنية على ذكاء الإنسان, وعلى مصالحه, لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
(إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
[أخرجه أبو داود عن عائشة في سننه]
(المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
[أخرجه أبو داود عن عائشة في سننه]
◄من لوازم المؤمن: تلاوة القرآن الكريم :
وفي الحديث الصحيح:
(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن, مثل الأترجَّة –البرتقالة- ريحها طيب, وطعمها طيب, ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن, كمثل التمرة, لا ريح لها, وطعمها حلو, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن, مثل الريحانة, ريحها طيب, وطعمها مر, ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن, كمثل الحنظلة, ليس لها ريح, وطعمها مر).
معنى ذلك: من لوازم الإيمان تلاوة القرآن, القرآن ربيع المؤمن, القرآن حبل الله المتين, القرآن هو الصراط المستقيم, المؤمن يتعبد الله بتلاوة القرآن.
بشرى لك يا قارئ القرآن :
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(من تعلم القرآن, متعه الله بعقله حتى يموت).
يعني: تعلم كتاب الله, نجاة من الخوف, ألم يقل الله عز وجل:
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾
[سورة النحل الآية:70]
معنى ذلك: أن تلاوة القرآن, وفهم القرآن, وتدبر القرآن, والعمل بالقرآن, من لوازم المؤمن.
◄لا يبتاع على بيع أخيه, ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر :
(المؤمن أخو المؤمن, فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه, ولا أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر).
[أخرجه مسلم في الصحيح]
علامة الإيمان: أخ اشترى شروة, أو باع بيعة, أنت تبتعد إلى أن ينتهي الموضوع, أما باع بيعة أخوك, مسلم, مؤمن, جارك, بكم باعك إياها؟ أنا عندي أرخص, أرجعها له, والله لست مؤمن, إذا كان أخوك باع بيعة, وسعرها معقول, أردت أن تنافسه, فسألت الذي اشتراها: بكم اشتريتها؟ أنا أعطيك أفضل منها, وأرخص, ردها إليه, ليس هذا من صفات المؤمن.
يقول عليه الصلاة والسلام:
(المؤمن أخو المؤمن, فلا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه, ولا أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر).
كان السلف الصالح: كانوا على عكس ذلك, يأتي المشتري يشتري, يأتي المشتري الثاني, يقول: لا, أنا استفتحت, اذهب إلى جاري.
هكذا كان السلف الصالح –نعم-.
هذه من صفات المؤمن: أن تبتاع على بيع أخيك, أو أن تخطب على خطبة أخيك, هذا يتنافى مع كمال الإيمان.
◄الكياسة والعقل والفطنة والذكاء :
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين, من جرَّب المجرب, كان عقله مخرب).
(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
(لا أسمح - كما قال الشافعي- لعدوي أن يغشني مرتين).
(المؤمن كيس فطن حذر(
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[سورة النساء الآية:71]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[سورة النساء الآية:71]
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(المؤمن كيس فطن حذر).
فأن تجد مؤمناً خباً, مستحيل أن تجده مخدوعاً, مستحيل, لأن سيدنا عمر رضي الله عنه يقول:
(لست بالخب ولا الخب يخدعني).
أي لست من الخبث بحيث أخدع, ولا من السذاجة بحيث أَخدع.
إذاً: الكياسة, والعقل, والحذر, والفطنة, من صفات المؤمن, والأخلاق العالية, ألا تبتاع على بيع أخيك, ولا أن تخطب على خطبة أخيك, من صفات المؤمن ......
◄من مبشرات المؤمن :
يقول عليه الصلاة والسلام:
(أرأيت الرجل, يعمل العمل من الخير, ويحمده الناس عليه).
شخص سأل النبي عليه الصلاة والسلام:
(يا رسول الله.! أرأيت الرجل, يعمل العمل من الخير, ويحمده الناس عليه.؟ فقال عليه الصلاة السلام: تلك عاجل بشرى المؤمن).
أحياناً: المؤمن مستقيم, وعمله طيب, شيء طبيعي جداً, أن يلهج الناس بالثناء عليه, أن يحبونه, أن يمدحونه, فهذا ليس رياء ولا نفاقاً, طبيعة إيمانه تقضي: أنه مستقيم, أنه صابر, أنه متواضع, أنه رحيم, فلان أخلاقه الإيمانية أخلاق رضية, الناس يحبونه, فإذا أحبه الناس, وأثنوا عليه, ليس معنى هذا: أنه يتمنى السلوك, أن ينتزع إعجابهم, لا, هذا هو الإيمان. هذه بشرى معجلة من الله عز وجل.
يعني: إذا أحبك الله, ألقى حبك في قلوب الخلق.
وقد قال بعضهم في تفسير قوله تعالى .......
يعني: إذا أحبك الله أحبك الناس, لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن, فحب الخلق لك إذا كنت مستقيماً, ومؤمناً إيماناً كاملاً, هذه بشرى من الله.
(يا رسول الله, أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير, ويحمده الناس عليه.؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تلك عاجل بشرى المؤمن).
◄ليس بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء :
ويقول عليه الصلاة والسلام:
(ليس المؤمن بالطعان, ولا اللعان, ولا الفاحش, ولا البذيء).
[أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود]
يضبط لسانه, لا يطعن, ولا يلعن, ولا يفحش في القول, ولا يستخدم العبارات البذيئة.
الفحش: مجاوزة القدر المعلوم إلى قدر لا يحتمل, كلام قاس, ذكر عورات, سباب, لعن, طعن.
(ليس المؤمن بالطعان, ولا اللعان, ولا الفحش, ولا البذيء).
[أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود]