الإسلام دين الحضارة والبناء
◘◘◘ إن ما يميز الدين الإسلامي أنه دين متكامل، فهو يقدم تصوراً كاملاً للحياة، ويجعل من الحياة الدنيوية والأخروية، والجسد والروح، وحدة لا تنفك، فالبناء الحضاري في الإسلام بناء كامل وشامل، وإنجاز مادي محكوم بالقيم العليا التي يُقررها الإسلام، فالحضارة الإسلامية هي حضارة العلم والإيمان، تستهدف الرقي بالإنسان من جميع الجوانب : الجانب الروحي، والمادي، والعقلي، لكي ينمو نمواً كاملاً، وأي خلل في أي جانب من الجوانب يؤدي إلى تزلق الإنسان، وحيرته، وتشتته، ونقول إن التخلف عن الإسلام هو تخلف في جميع مناحي الحياة، ونستطيع أن نقول : نشأت من التخلف العقدي كل ألوان التخلف التي أصابت العالم الإسلامي : التخلف العلمي، والحضاري، والاقتصادي، والحربي، والفكري، والثقافي، وقد تختلف النسبة بين العوامل المختلفة التي أدت إلى التخلف العقدي في تأثيرها في كل نوع من أنواع التخلف..
إذاً فالغياب الحضاري، أو الأزمة الحضارية التي تعاني منها الأمة المسلمة اليوم هي أزمة فكر أولاً وقبل كل شيء؛ لأن العقل المسلم قد توقف عن العطاء، حتى انتهينا إلى هذا الغياب الحضاري.
◘◘◘ قد يسعى البعض جاهدًا في بناء الحضارة بمفهومها المتكامِل في حياته؛ حيث يَمزج بين العبادات والمعاملات، ويعدُّها خطًّا مُستقيمًا يسير عليه لتطبيقِ الشريعة الإسلامية وَفْقَ أسس صحيحة، وهذا الذي يُسهم في بنائها.
ومع ذلك لا نُعاني في عصرنا الحاضر ظاهرةَ قِلَّة التدين، بل نعاني عبثَ تطبيقه؛ حيث يعتقد بعضُ الناس أنَّ الصلاة والصوم هما فقط العبادة، وأنَّ مُعاملة الناس ومراعاتِهم وأداء حقوقهم بعيدًا تَمامًا عن تَطبيقها وَفْقَ ما جاء به الإسلام، فانعكست آثارُ ذلك على سلوكيات المجتمع الذي يُمثل حضارته، فأصبح من يُمثل حضارته في سلوكه قِلَّة نجدهم خلف ستار مسرح الحياة.
وذلك بسبب ظهور الفكر الارتجالي الذي ظهر دون أسس وطيدة في الشريعة الإسلامية، ونقص القناعة بأهمية الحضارة في بناء الحياة، وعدم إدراك أهمية الحضارة باعتبارها ترفًا زاخرًا، وأنَّ الحياةَ عبارةٌ عن إطار مُحدد ينصبُّ في داخلها العبادة فقط، وفك الارتباط والعلاقة الوطيدة بين الحضارة والعبادة، مع الاقتناع بأنَّ الحضارةَ لا تقوم إلاَّ بعيدة عن العبادة؛ لكي ينهض المجتمع حضاريًّا.
مما نتج عنه تراجع مؤشر النمو الحضاري في المجتمع الإسلامي، وأصابه الوهن، وغَرَق في مشكلات لا حصر لها، واخْتَلَّ توازُنُه في مجانسة بين العبادات والمعاملات، حتى استنزف المجتمع طاقاته باتجاهاتٍ معاكسة لنموِّه الحضاري، وأصبح عاجزًا عن رفع هامته، فدخل المجتمعُ في صراعٍ حضاري؛ نتيجةً لتفكُّك أجزائه التي هي عبارة عن خليطٍ من عِدَّة اتجاهات، كلّ منها له مفهوم حضاري مُخالف لغيرها أو موافق لفكرها وآرائها.
فمن تلك الاتجاهات التي تُفرِّق بين الدين والمعاملات، وأصبحت عائقًا في بناء الحضارة: أصحابُ الفكر الليبرالي، والعَلماني، وغيرهم؛ مِمَّا نتج عن اختلافِ وجهات النظر والأفكار صِراعٌ حضاري بين كِفَّةٍ تَخلَّت عن الحضارة، واعتقاد أنَّ العبادة تُعيشُه فقط على هامش الحياة.
ومن هنا نشأت مُشكلة التضارُب الحضاري؛ لذلك علينا أنْ نسلكَ طريقَ الوسطية، وأن نوازن بين العبادات والمعاملات؛ حتى نرتقيَ بفكرنا وحياتنا، ومن هنا نخلّد حضارتنا.
◘◘◘ قبل نزول الوحي كان في مهبط الوحي (مكة) حضارة تناهز الحضارات العالمية ، فكانت أكبر مركز تجاري في العالم يربط الشمال بالجنوب ، والشرق بالغرب ، وآسيا بأفريقيا والعالم القديم .
ولكنها كانت حضارة مادية صرفة ، وبأخلاق مادية ظالمة ، ليس ظلم البشر للبشر فقط ، ولكن ظلم الإنسان لربه إذ يخلق ويعبد غيره .
لقد كان الشرك متفشياً ، والقيم غاب جزء كبير منها إلا ما كان متجذراً في طينة العرب كالكرم والشرف ، أما العدل والإنصاف فكانت بيد القوي ، ولم يكن للضعيف مكان يذكر .
لقد كان هناك رمز لهذه الحضارة التي ستبنى على الوحي ، فهي لم تنزل على ملك ، ولم تنزل على غني ، أو على أحد أرباب الدنيا ، أو رجل من القريتين عظيم ، لكنها نزلت على الصادق الأمين الذي كان دليل صدق الرسالة ، فلم يعرف عنه الكذب والخيانة لذلك صُدّق فيما أبلغهم بالرسالة حتى من لم يؤمن لم يستطع أن يصف محمدا بالكذب مصداقا لقوله تعالى :
{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }
فالتمهيد لهذا الوحي هو الأخلاق ، وكأن عنوان الرسالة هو الأخلاق (أخلاق الإنسان) . فالصدق والأمانة هما عنوان هذه الحضارة.
◘◘◘إن الشروط الأساسية لبناء أية حضارة هي الأخلاق بكل معانيها ، والعلم بكل معانيه الديني والدنيوي ، والحرية باتساعها المنضبط وفي مقدمتها حرية الدين والمذهب والفكر ، فالعقل المقهور لا يمكن أن يكون مبدعا ، والعقل الذي تحده الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء بأطيافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والعصبية المذهبية كلها قيود تحد من إبداعه ، ولا حضارة ولا تقدم بلا حرية ، وقد قال المولى سبحانه : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ، وقال : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } فبعد أن وضح لهم الوحي الغي من الرشاد ترك الحرية للعقل البشري الذي احترمه الوحي ، فلم يوجد دين في الأرض متسامح تسامح الإسلام .
أما الأخلاق فقد قال فيها المولى عز وجل مادحا الرسول المبلغ : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
وقال عنه : { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }.
وقال تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }.
إن هذه الأخلاق التي تمثلت في المصطفى كانت مفتاح إقبال الناس على هذا الدين الذي جاء يوازن بين الدنيا والآخرة .
وأما العلم فقد نزل القرآن الكريم في أول آياته :
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
فإذاً أعلى مقاصد الرسالة هو العلم والقلم الذي به يتعلم الإنسان.
وقال تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }.
وقال تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وهو تعليم إلهي على أن نسأل من هم أعلم منا بلا عيب ولا تردد ولا خجل ، فإن ذلك خير من الوقوع في الخطأ .
◘◘◘ لقد نزل الوحي بآية قيل عنها أجمع آية في القرآن وهي قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
يا له من ميزان عظيم يشمل الخلق أجمعين !!! وهل غاب عن الأرض إلا العدل والإحسان ؟ وهل غاب عنها إلا أن يردع الباغي والفاحش والمتفحش ونهي صاحب المنكر ؟!
لو استقامت البشرية على هذه الآية لصلح حالها .
◄اسمعوا إلى قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين ضرب شريف من أشراف قريش (ابن عمرو بن العاص) رجلا قبطيا قال الخليفة الراشد بعد أن علاه وعلا أباه بالدرة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
يا له من عبقري قوي ! ويا لحاجتنا اليوم لمثل هذا القوي.!
◘◘◘لقد أعطت الشريعة الإسلامية لكل ذي حق حقه ، وعلى رأسها جعلت العفو والإحسان ، قال الله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }.
* ولقد دعانا إلى التفكر والتدبر ، وأثنى على المتفكرين فقال تعالى:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } بل جعل التدبر من مقاصد الوحي وغاياته فقال :
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا }.
◘◘◘لقد دمر الإسلام الشرك ابتداء من الأصنام والطواطم والكواكب وكافة الطواغيت ، حتى أعلى هذه المعبودات من دون الله ألا وهو (الهوى) . ولذلك نهانا عن اتباع الهوى فقال تعالى : {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لأن الهوى أخطر من وسوسة الشيطان لأنه نابع من النفس الأمارة بالسوء الساكنة في أجسادنا ، فأين المفر منها إلا بقمعها ؟
ألم يقل الله عز وجل : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }.
فالهوى إله يعبد من دون الله ، ولكنه خفي كخفاء النملة على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء ، وذلك لشدة الخفاء .
هؤلاء الذين قال عنهم المولى سبحانه : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
ويجب ألا ننسى أن عمود الدين هو التوحيد ( لا إله إلا الله ) وهي علم إذ قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }.
إن هذا العلم عميق ومهم وهو ما تدور عليه دراسات العقيدة بمجملها ، وهو الذي افترقت فيه الأديان والمفاهيم ، فمن لا يعلم بأمور العقيدة ولا يدرسها ناقص العلم لأنها أصل الدين ، وما بعث الأنبياء أجمعون إلا بها .
◘◘◘ إن الحضارة التي بناها الإسلام هي حضارة تزكية النفس ، قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
وهي دعوة صريحة إلى التحلي بالأخلاق الحميدة وترك الأخلاق الرذيلة .
◘◘◘ وقد امتدح الوحي المؤمنين الذين اتصفوا ببعض الصفات ومنها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.
فما أعظم هاتين الآيتين ، فحياتنا اليوم انقلبت إلى اللغو ، فمن لا يفهم بعلم من العلوم يتكلم فيه ، ومن لا يفهم بالسياسة يتحدث بالسياسة ، وارتفعت أصوات اللاغين ، وخبت أصوات المتخصصين .
انظر إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) فقال فاعلون لأنهم الذين ينتجون ويعملون حتى يكون لديهم المال الذي يزكون منه . أما الكسالى والنائمون فكيف يؤدون الزكاة إذا كانوا لا يملكون نصابها أصلا ؟
◘◘◘ ونهانا عن الغضب والغيظ فقال : {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }. فالنهي ليس فقط عن الغيظ ، بل الأمر بالعفو عن الناس ، وزاد (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).
وجعل الكذب نقيضا للتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} فالتقوى والصدق متلازمان ، ولا يتصور أن يكون الرجل تقيا وهو ليس صادقا .
◘◘◘ لقد سار زمن الرسالة ثلاثة وعشرين عاما ورسول الله يعلم الناس حسن الخلق حتى قال : (الدين المعاملة ) وقال : (لا إيمان لمن لا أمانة له). .
وحينما تخلق المسلمون بهذه الأخلاق العظيمة دانت لهم الأرض والأمم ، ودخلوا في دين الله أفواجا ، وكانت لهم حضاراتهم في كل موطن يطؤونه ، فقامت حضارات سامقة في مصر وبغداد والشام والأندلس والمغرب والشرق وفي كل مكان في المعمورة في زمن كان العالم يغط فيه بظلام دامس ، وجهل متفشي .
لقد كان المسلمون يأخذون من الحضارات السابقة ويبنون عليها ويزينونها ، ويشيدونها على أسس من أخلاقهم التي علمها لهم الصادق الأمين.
◘◘◘ رغم الحضارة التي عمت البشرية ببعثته صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قد يتساءل البعض عن سبب تراجع المسلمين وبقائهم على الحال التي هم عليها اليوم رغم ما تقدم من حضارة الإسلام.؟!
ولكن يزول العجب إذا علمنا أن حال المسلمين اليوم لا يمثل حقيقة دينهم، فكثير منهم عانوا من التخلف حين تخلوا عن مبادئ دينهم وما جاء في كتابهم وفي سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلم تعرف الدنيا حضارة أسعد للبشرية جمعاء من الحضارة الإسلامية، ويكفي قراءة التاريخ وسماع أقوال المنصفين حتى من غير المسلمين لتعرف ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.؟!
◘◘◘ الإسلام ليس بحاجة إلى قلمنا مهما بلغ قلمنا من البلاغة، ولكن قلمنا بحاجة إلى الإسلام.. إلى ما ينطوي عليه من ثروة روحية وأخلاقية.. إلى قرآنه الرائع الذي بوسعنا أن نتعلم منه الكثير.
جاءت الحضارة الإسلامية بإشراقات الروح، وفي نفس الوقت لم تنس المادة ولم تهملها؛ فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من مادة وروح، وأمده بكل أسباب الحياة في جانبيها المادي والروحي؛ فهيأ للجسم البيئة الصالحة التي يعيش فيها على وجه الأرض، وهيأ سبحانه وتعالى للجانب الروحي غذاءه من وحي السماء الذي نزل إلى الإنسان على يد رُسل الله تعالى، قال الله عز وجل عن خلق الإنسان من مادة وروح{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٨ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر:28- 29].
؛ فالروح والجسد شيئان قائمان متلازمان لا ينفك الواحد منهما عن الآخر إلا بموته، ولكل من الروح والجسد احتياجاته ومتطلباته؛ فالجسد يعيش بالمأكل والمشرب والملبس، ولو قصرنا في جانب واحد تجد تأثر الشطر كله به، فلو قصَّر الإنسان في مأكله تجده ضعيفًا متهالكًا لا يستطيع أن يحيا حياة مستقرة طيبة، كذلك المشرب والملبس، إن التقصير في أي من متطلبات هذا الجسد تجد انعكاسه عليه كله لا يقوى على الحياة ولا يعين شطره الآخر على الحياة حياة مطمئنة، وللروح أيضًا متطلبات؛ فالروح لا تعيش بلا حب ولا عطاء ولا تضحية، كيف تعيش الروح وهي لا تجد إلها تعبده تحبه وترجوه وتخاف منه وتفر إليه.؟!
كيف تعيش الروح وهي خاوية الفؤاد لا تجد من تركن إليه وتسكن إليه، أو لا تجد السلام والعطاء وسلامة القلب والمحبة بين الناس.؟!
إن الإنسان إذا قصَّر في توفير احتياجات روحه فهو كالذي قصَّر في طعامه وشرابه، كيف يهنأ للإنسان بال، وكيف يستقر حاله ونصفه الآخر يأنّ من الجراح.؟!
◘◘◘ إن مما امتازت به الحضارة الإسلامية أنها حضارة العلم والإيمان انطلاقاً من قوله تعالى( إقرأ باسم ربك الذي خلق) [العلق:1]، وقد كان للإيمان أثره الرئيس في تكوينها، ولما كنَّا مطالبين باستئناف النهوض الحضاري لهذه الأمة فمن الأهمية بمكان بيان ما للإيمان الحق من أثر في النهوض الحضاري من خلال أثره العظيم على الإنسان وما يحيط به.
◘◘◘ تفوقت الحضارة الإسلامية على غيرها بما تملكه من قوة روح الجهاد والاجتهاد والإنصاف والعدل والتسامح مع المخالف وحب الخير ونشر العلوم للعالم أجمع، ولذلك هي مرشحة مرة أخرى لأن تقود البشرية بحكم ما تملك من مقومات.
يعد الإيمان هو جوهر طريق السعادة والداعي الأكبر إلى تحصيل العلم وصناعة الحضارة، وكل حضارة لم تقم على الإيمان بالله وتوحيده هي حضارة متصارعة من داخلها، متحاربة بين أجزائها، يهدم بعضها بعضًا؛ حيث يُتَّخذ فيها من دون الله آلهة أخرى باختلاف الأسماء، وهو ما يؤدي إلى فساد الحياة الإنسانية وشقائها.!!
قال تعالى{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].
وقال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، وقال تعالى { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].
وانعكاس هذا هو ما حدث ويحدث لكثير من الحضارات؛ فتزيغ عما أرادت، وتنحرف عما توجهت له؛ فتجلب للبشرية الشقاء ولو أرادت له الخير، قال الله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .
◘◘◘ إن الإسلام دين عالمي جاء لصلاح كل زمان ومكان، ولكل لغة وجنس، ولكل لون وعرق، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وقال تعالى{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
◘◘◘ جاء الإسلام بعقيدة ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال، وشريعة قائمة على مبادئ العدل والحق والخير بما يلائم الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان، وما ذاك إلا لأنه من عند الله الذي يعلم ما يصلح لخلقه وما ينفعهم، قال تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
كما أن الإسلام ليس دينًا خاصًّا بفئة أو لون أو جنس معين من الناس، فهو للأبيض والأسود والأصفر والأحمر، وهو للناس قديمًا وحديثًا ومستقبلًا، ولا يجد الباحث مهما أوتي من مقدرة علمية كبيرة فيما جاء به نبي الإسلام أي طابع إقليمي أو صبغة طائفية أو عنصرية، وتلك آية واضحة على أن دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معينة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة؛ إذ إن شعائر الإسلام وشرائعه وأحكامه وأخلاقه كلها تصلح لكل البشر في أي زمان؛ فلا يمكن أن نقول أن العدل أو حسن الخلق لا يصلح لقوم أو لزمان، وهذا خاص بالإسلام، أما في بعض الديانات فإن النزعة الإقليمية أو الطائفية أو العرقية واضحة وجلية؛ فعلى سبيل المثال اليهود حين يتعاملون مع من ينتمي إلى غير دينهم يقول الله سبحانه وتعالى عنهم {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] .
◘◘◘ إن من روائع الإسلام أنه يقوم على العقل، وأنه لا يطالب أتباعه أبدًا بإلغاء هذه الملكة الربانية الحيوية، كما أن الإسلام يعشق البحث والاستفسار، ويدعو أتباعه إلى الدراسة والتنقيب والنظر قبل الإيمان، إن الإسلام يؤيد الحكمة القائلة: برهن على صحة كل شيء ثم تمسّك بالخير، وليس هذا غريبًا؛ إذ إن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، فالإسلام دين العقل والمنطق؛ لذلك نجد أن أول كلمة نزلت على النبي محمد كلمة (اقرأ)، كما نجد أن شعار الإسلام هو الدعوة إلى النظر والتفكر قبل الإيمان؛ فالإسلام هو الحق وسلاحه العلم، وعدوه اللدود هو الجهل.
هذه الأخلاق جزء لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية وركن أصيل فيها، ولا يمكن أن تغيب الأخلاق الحميدة عن المسلم لأي سبب كان من أجل عمارة الأرض أو من أجل مصلحة ما أو غير ذلك، وقد أدب الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون مَثلًا في الأدب والأخلاق والقدوة الحسنة في كل شيء، قال تعالى{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ووصف الله جزءًا من رحمته وحرصه على هداية الناس لطريق السعادة، فقال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128] .
◘◘◘ أن الله خلق الإنسان للخلافة والعمارة للأرض، قال تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وقال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: 39] .
ففي دين الإسلام يأثم كل الناس إذا تركوا أي علم يفيد البشرية ويعمِّر الأرض، وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم والبشرية تعيش في قاع التخلف الحضاري والعلمي وانشغال الناس بالفلسفات والمناظرات والتقعرات عن البناء والعمل وعمارة الأرض؛ فانتشل النبي صلى الله عليه وسلم البشرية ورفعها وسما بها بدين الإسلام، دين الحضارة والعمارة والبناء، ودون أن يكون هناك تصارع بين العمارة وبين إشراقات الروح، فلا تناقض داخل نفس المسلم بين العبادة والعمل والبناء وبين حياته الروحية والعمل على مرضاة ربه، بل كل ذلك لله وفي سبيله، قال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] .
◘◘◘ قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته وحركاته وفتوحاته يعتمد على جميع الأسباب المتاحة بعد التوكل على الله تعالى حيث لم يهمل أي سبب متاح، ففي هجرته خرج بشكل اعتمد فيه على كل وسائل الإخفاء عن قريش بما لا يدع أي مجال للشك في أن الأخذ بالأسباب مطلوب حتى للأنبياء، وكذلك في غزوة بدر حتى استفاد من الشمس حيث جعلها خلفه حتى تطلع متجهة نحو عيون المشركين، وقد لبس في غزوة أحد درعين وتعويدا للأخذ بالأسباب، حيث كانت سيرته العطرة تجسيدًا لهذا التوازن الرائع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وبين الأخذ بالأسباب المشروعة المتاحة.
◘◘◘ توجب الحضارة الإسلامية على أفرادها أن يكونوا أصحاب قلوب سليمة ونفوس صافية، قال تعالى حكاية عن دعاء المؤمنين{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
وقال تعالى {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ٨٨ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }[الشعراء:88- 89].
وقال صلى الله عليه وسلم(لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيصُدُّ هذا ويَصُدُّ هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم حاثًّا على المحبة والألفة(والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشُوا السَّلام بينكم) [رواه الترمذي].
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أيُّ الناس أفضل؟ قال كل مَخْمُومِ القلب، صَدُوق اللِّسان، قالوا: صَدُوقُ اللِّسَان نعرفه، فما مَخْمُومُ القلب؟ قال: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إثم فيه، ولا بغيَ، ولا غِلَّ، ولا حَسَدَ) [رواه ابن ماجة] .
◘◘◘ إن القرآن الكريم إضافة إلى أمره الأخذ بالأسباب وإعداد القوة ما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فإنه قد حدد النسبة في البداية بواحد من المسلمين إلى عشرة من المشركين، ثم خفف إلى واحد إلى اثنين فقال تعالى:
(الآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئِتَيْنِ) الأنفال 66).
ولم يكلف بأكثر من ذلك، مما يدل على أهمية الكثرة والعدد بجانب القوة المعنوية.
وهذه العقيدة القائمة على الأخذ بالأسباب جعلت المسلمين يبذلون كل جهودهم لتحقيق أسباب القوة والحضارة والتمكين غير معتمدين على الخيال والخرافات، وحتى الكرامات والمعجزات التي إن أتت فهي بفضل الله تعالى، فلم يدخل المسلمون على مر تاريخهم في أية معركة عسكرية أو حضارية معتمدين على المعجزات والكرامات فقط، بل اعتمدوا على الله تعالى ثم على جميع الأسباب الممكنة، ولذلك أراد الله تعالى أن يشهد اصحاب (الرسول صلى الله عليه وسلم )هزيمة عسكرية في معركة أحد، حينما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر الذي كان يتعلق أيضًا بالأخذ بالأسباب، حيث أمر الرماة أن لا ينزلوا من فوق جبل عينين، لكنهم نزلوا فحدثت المصيبة، فقال تعالى:
(أَوَلَمَّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
) (آل عمران 165).
ومن هنا استطاع المسلمون أن يحققوا حضارة رائعة خلال أقل من قرنين شهد بتقدمها والابتكارات فيها المنصفون.