♦♦♦ حقوق الجار♦♦♦
◘◘◘ استنبط العلماء أن أي جار لك كائناً من كان، مسلماً أو غير مسلم، مستقيماً أو غير مستقيم، له عليك حق، فإن كان مسلماً له عليك حقان حق الجوار و حق الإسلام، فإن كان قريباً له عليك ثلاثة حقوق حق الجوار و حق الإسلام و حق القرابة.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ...} [النساء 36] فأوصى بالإحسان إلى الجيران كلهم، قريبهم وبعيدهم، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم. كلٌ بحسب قربه وحاجته وما يصلح لمثله .
◘◘◘ أما السنة النبوية فقد حفلت بنصوص كثيرة توصي بالجار، وتؤكد حقه، وتأمر بإكرامه والإحسان إليه، وتتوعد على إيذائه وعقوقه.
◄بعض الآثار تروي أن في بعض السنن ، أتدرون ما حق الجار؟
إذا استعان بك أعنته، و إن استنصرك نصرته، و إن استقرضك أقرضته، وإن مرض عدته، و إذا مات شيعته، و لا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، و إذا اشتريت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، و لا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، و لا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها.
يروى أن أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى له جار شاب مدمن خمر وغناء، و طوال الليل يغني هذه الأغنية المفضلة: أضاعوني و أي فتى أضاعوا، أي سأم منه، و في أحد الليالي لم يسمع صوته فسأل فإذا هو في السجن، أبو حنيفة النعمان بمكانته و وزنه و علمه وشأنه يذهب إلى السجان يشفع له، شفع له و أركبه على دابته وراءه و قال له: يا فتى هل أضعناك.؟ تقول: أضاعوني و أي فتى أضاعوا؟؟ فيقول هذا الشاب: عهداً لله لن أعود إلى الغناء و الخمر.
◄فعن عائشة وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) (رواه البخاري: 5668، 5669، ومسلم: 2624، 2625).
◄وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ ( أنه ذبح شاة، فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي، ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ( رواه أبو داود: 5152، والترمذي: 1943، وأحمد: 6496، وحسنه الترمذي).
◄ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ) وفي رواية: (فليحسن إلى جاره ) ( رواه البخاري: 5673، ورواه مسلم: 47، 48).
وهذا يدل على أن إكرام الجار، وطيب المعاملة له من شعب الإيمان، وسمات المؤمنين، وأن من لم يكرم جاره لم يتم إيمانه.
◘◘◘ وقد أكد ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم )بقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه ) (رواه مسلم: 45).
فبين ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن كمال الإيمان الواجب لا يتم إلا بأن يحب المسلم لجاره ما يحب لنفسه من الخير. وهو يستلزم كذلك أن يكره له ما يكره لنفسه من الشر.
بل بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن خير الناس وأفضلهم هو خيرهم لجاره وصاحبه، فقال: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره )[رواه الترمذي: 1944، وأحمد: 6566] وهذا الحديث المبارك ميزان نبوي عظيم يبين مقياس التفاضل بين الناس عند الله، وأن من كان خيِّرًا في معاملته لجيرانه وأصحابه وزملائه فهو دليل خيريته عند الله، وتوفيقه له، ومحبته إياه، بل هو دليل على أنه خير الناس عند الله، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
◄وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعد خمسًا، وقال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) (رواه الترمذي: 2305، وأحمد: 8081، والطبراني في الأوسط: 7054، وأبو يعلى: 6240. وحسنه الألباني في ( صحيح سنن الترمذي).
فبين أن الإحسان إلى الجار دليل على صدق الإيمان، وشعبة من شعبه، وسبب من أسباب زيادته وقوته.
◄رد السلام وإجابة الدعوة:. وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة.
◄كف الأذى عنه: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَنْ يا رسول الله.؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه) ، ولما قيل له: يا رسول الله.! إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها. قال: (لا خير فيها، هي في النار) . ولقوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) يشكو جاره، فقال: اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق. فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به وفعل وفعل. فجاء إليه جاره فقال له: ارجع، لا ترى مني شيئًا تكرهه ) وفي رواية: (فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه فقال: ارجع فوالله لا أؤذيك أبدًا ) (رواه أبو داود: 5153، وابن حبان: 520، والبخاري)..
ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) (رواه البخاري: 5787، ومسلم: 47).
وفي صحيح البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم )أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل من يا رسول الله.؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه )، ورواه مسلم بلفظ[ صحيح مسلم: 46.]: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه).
فأقسم ثلاث مرات على نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، كما نفى عنه دخول الجنة، وهذا الوعيد الشديد ينبئ عن تعظيم حق الجار، وأن الإضرار به من الكبائر.
وقال ـ عليه الصلاة والسلام: (أول خصمين يوم القيامة جاران ) (رواه أحمد: 17410، والطبراني في المعجم الكبير)
وقد دل الحديث على أن الله تعالى سينتقم للجار المظلوم من جاره الظالم، وأن هذه الخصومة مقدمة على غيرها، مما يدل على خطورة ظلم الجار أو التقصير في حقه.
وعن أبي هريرة أيضًا ـ رضي الله عنه ـ قال: (قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم): إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها.
قال) لا خير فيها، هي في النار. قيل: فإن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بأثوار من أقط. ولا تؤذي جيرانها. قال: هي في الجنة .( رواه أحمد: 9673، وابن حبان: 5764، والبخاري .
وهذا يدل على أن أذى الجار من الأسباب الموصلة إلى النار، وأن كف الأذى عنه سبيل موصل إلى الجنة.
عن عثمان بن زائدة قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل. فحُدث بذلك أحمد بن حنبل، فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل.
والمعنى: أن السلامة من أذى الناس، لا يكون إلا بالتغافل عن شرورهم، والتغاضي عن ظلمهم وغشمهم، وعدم مؤاخذتهم بكل ما يصدر منهم. ومن وفق لذلك فهو العاقل الموفق، والسيد المسوَّد، ولله در القائل:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيِّد قومه المتغابي
وقال الحسن البصري: ليس حسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى من الجار.
وقد وصف الله المتقين بأنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، ويحسنون إليهم بالصفح عنهم، والتسامح معهم، فقال ـ سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(آل عمران 134).
وأمر بالعدل والإحسان، فقال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...} [النحل 90]، والعدل: هو أن يستوفي الإنسان حقه، ويؤدي ما عليه. والإحسان: هو أن يتنازل عن حقه أو عن شئ منه، ويؤدي أكثر مما يجب عليه.
والنصوص الشرعية في الحث على العفو والتجاوز، والإصلاح والتسامح كثيرة جدًا.
وإذا كان ذلك مأمورًا به مع كل الناس، فهو مأمور به مع الجار من باب أولى وأحرى.
◘◘◘ وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم )أنه قال: (إن الله ـ عز وجل ـ يحب ثلاثة ) ومنهم ( رجل له جار سوء فهو يؤذيه ويصبر على أذاه، فيكفيه الله إياه بتحول أو موت ) وفي رواية ( حتى يفرق بينهما موت أو ظعن(رواه أحمد: 5/151، والبيهقي في السنن الكبرى:18282).
وكثير من الناس يستطيعون ويحرصون على كف أذاهم عن جيرانهم، ولكنهم لا يحرصون، بل ولا يحاولون أن يتحملوا أي أذى من جيرانهم، ولو كان صادرًا عن طريق الزلل والخطأ، فتجدهم متحفزين جاهزين لأدنى إثارة، فيردون الصاع صاعين، والكلمة بعشر، ويجعلون من الصغير كبيرًا، ومن القليل كثيرًا، ومن الحقير خطيرًا، ويصنعون من الحبة قبة، فتنشأ بينهم وبين جيرانهم مشاكل كبيرة، وخلافات كثيرة، وربما كان منشؤها من أمور تافهة حقيرة.
ولو أنهم وطنوا أنفسهم على تحمل الأذى، ودمح الزلات، وغض الطرف عن الهفوات، وطلب المعاذير، وحمل ما يصدر عن الجيران على أحسن المحامل، واحتساب الأجر عند الله تعالى في العفو والمسامحة، لما وصلت بهم الحال إلى ما ذكرت.
وكم نشأت نزاعات عريضة بين بعض الجيران بسبب الاختلاف بين أطفالهم، وهو أمر لا يستغرب وجوده بين الأطفال. ولو كان لدى آبائهم شئ من الحكمة والسماحة ومعرفة حق الجار لما ظهرت هذه الخلافات بينهم، ولأمكنهم تجاهلها أو دفنها في مهدها.
◄تحمل أذى الجار: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96].
ويقول الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]. وقد ورد عن الحسن البصري ( رحمه الله( قوله: (ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى) .
◄تفقده وقضاء حوائجه: يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم) ، ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: (إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي) . وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي.؟ قال: (إلى أقربهما منكِ بابًا) .
◄ستره وصيانة عرضه: وإن هذه لمن أوكد الحقوق، فبحكم قرب المساكن في هذه الأقفاص المسماة شققا أو في بعض دور الصفيح التي ابتلانا الظلم الاجتماعي بها، قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
سئل النبي (صلى الله عليه وسلم): (أي الذنب أعظم.؟). فعدَّ من الذنوب العظام: (أن تزاني حليلة جارك) . وللعين حظ من الزنا وللأذن وللنفس واللسان.!
الجار الحسن يُشترى حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال الإمام علي كرم الله وجهه: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بجوار حسن.
يروى أن أبا الجهم العدوي باع داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص.؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط.؟ فقال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل، إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني حاجة فرّج عني. فلما بلغ ذلك سعيداً بعث إليه بمائة ألف درهم.
◄ومن حق الجار على جاره أن يزوره إذا مرض ويسأل عن صحته ، ويَدْعُو له ويأمره بالصبر .
◄وإذا مات الجار فإن له حقًّا على جيرانه ، وهو : أن يتبعوا جنازته ، وأن ينظموا الأمر لإعداد الطعام لأهل الميت لأنهم مشغولون بميتهم .
◄ومن حق الجار على جاره أن يجيب دعوته إلى الوليمة إن دعاه .
◄ومما يجدر بالمسلم أن يكون ستَّارًا لعيوب جاره ؛ وذلك ليستره الله في حياته الدنيا ويوم العرض الأكبر.
◄ومن حقوق الجار على جاره : عدم التطاول عليه بالبنيان ، وعدم إيذائه بالأصوات المرتفعة .
◘◘◘ وأوصت السنة بالإحسان إلى الجار ، حتى لو كان غير مسلم ، ما دام فردًا يعيش في المجتمع الإسلامي ، فالإسلام يريد للمجتمع أن يشمله التكافل ويعمه التراحم ، عن مجاهد قال : كنت عند عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وغلام يسلخ له شاة ، فقال : يا غلام ، إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي ، حتى قال ذلك مرارًا ، فقال له : كمتقول هذا ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه ) (رواه أبو داود والترمذي).
وأقرب الجيران بابًا أحقهم بالإحسان ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت: يا رسول الله ، إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال : ( إلى أقربهما منك بابًا ) (رواه البخاري).
وكان محمد بن الجهم جارًا لسعيد بن العاص عاش سنوات ينعم بجواره فلما عرض محمد بن الجهم داره للبيع بخمسين ألف درهم ، وحضر الشهود ليشهدوا ، قال :بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص ؟ قالوا : إن الجوار لا يباع ، وما جئنا إلا لنشتري الدار . فقال : وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك ، وإن سكتَّ عنه بادرك بالسؤال ، وإن أسأت إليه أحسن إليك ، وإن هجته عطف عليك .؟
فبلغ ذلك الكلام جاره سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال له : أمسك عليك دارك .
◄إكرام الجار والإحسان إليه.
والإحسان إلى الجار معنى واسع تدخل فيه أنواع كثيرة من المكارم والفضائل التي أمر بها الإسلام، فكل ما يجب للمسلم على المسلم من حقوق فإنه يجب على الجار لجاره المسلم من باب أولى وأحرى، لأن له حق الإسلام وحق الجوار أيضًا.
ومن ذلك: محبته والتودد إليه، والسلام عليه، وطلاقة الوجه معه، وعيادته إذا مرض، وتشيعه إذا مات، ونصره إذا ظُلم، وكفه عن الظلم والمعصية بقدر الاستطاعة، ومواساته وبذل المعروف له، وتفريج كربته، وإعانته عند حاجته، وتعزيته عند المصيبة، وتهنئته في الفرح، وإدخال السرور عليه، والإهداء إليه، والنصيحة له ولأولاده وأهله، وتعليمه ما يجهله من أمر دينه ودنياه، وموعظته بالحسنى، وإعانته على طاعة الله تعالى.
والجامع لهذا كله: أن تحسن إليه بكل ما تقدر عليه من قول وفعل، وأن ترجو له الخير، وتحب له ما تحب لنفسك، وتقدم له ما استطعت من معروف أيًا كان نوعه.
روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: ثلاثة أخلاق كانت في الجاهلية مستحبة، والمسلمون أولى بها:
الأول: لو نزل بهم ضيف لاجتهدوا في بره.
والثاني: لو كانت لواحد منهم امرأة كبرت عنده، لا يطلقها، ويمسكها مخافة أن تضيع.
◄إذا لحق بجارهم دين، أو أصابه شدة أو جهد، اجتهدوا حتى يقضوا دينه ،وأخرجوه من تلك الشدة.
ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسن شاة )[ رواه البخاري: 2427، ومسلم: 1030.]، يعني: ظلف شاة، والمعنى: لا تحقرن جارة أن تهدي لجارتها شيئًا ولو كان شيئًا زهيدًا، لأن الهدية مجلبة للمحبة، مذهبة للغل ووحر الصدر، وهي بمعناها لا بقيمتها وثمنها، وعلى المهدى إليها قبولها وعدم احتقارها مهما صغرت.
◄ أن يحب لجاره ما يحب لنفسه من الخير:إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه) (رواه مسلم).
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحب لجاره ما يحب لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريباً كان أو بعيداً.
إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلاً كان أو كثيراً، كما قال الله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)(سورة الطلاق : الآية : 7 ).
◘◘◘ جعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان لقوله( صلى الله عليه وسلم ) : ( من يأخذُ عنِّي هذه الكلمات فيعمل بهنَّ أو يُعَلِّم من يعملُ بهنَّ؟ فقال أبو هريرة : قلت أنا يا رسول الله ، فأخذ بيدي فعدَّ خمساً فقال : اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ، وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مسلماً ، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب )). أخرجه الترمذي . (
وما من شك في أن الإحسان إلى الجار ومعاملته معاملة حسنة، ورعاية حقوقه وتحمل أذاه، يؤدي إلى حصول المحبة والألفة والمودة بين أفراد المجتمع ، فالجار لا يستطيع الاستغناء عن جاره في جميع الأحوال ، فمن حق الجار على جاره البـّر به ، وتقديم العون له في الشدة والرخاء، فيشاطره حزنه، ويفرح لما يسره.
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل الإحسان إلى الجار علامة على خيرية الإنسان وأمارة على صلاحه، من ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم) : (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره).( أخرجه الترمذي .(
ومن الجدير بالذكر أن المسلم قد يكون معروفاً باستغراقه في عبادة الله ، فلا يمنعه من دخول الجنة ويدفعه إلى النار سوى إيذائه جاره ، فقد قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : (إن فلانة تقوم الليل ، وتصوم النهار ، وتتصدق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال رسول الله ) صلى الله عليه وسلم ) : لا خير فيها ، هي في النار). ( أخرجه أحمد والحاكم).
،وقد يكون المسلم لا يؤدي من العبادة سوى الفرائض ، لكنه لا يؤذي جيرانه – أي لا يقسو على جيرانه بل يرحمهم – فيدخل الجنة ، قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم ) : (إن فلانة تصلي المكتوبة ، وتصوم رمضان ، وتتصدق بأثوار من أقط – أي صدقة هيِّنة – ولا تؤذي جيرانها ، قال : هي في الجنة)). أخرجه البخاري .(
وهكذا يكون إيذاء الجار سبباً في دخول النار، والإحسان إلى الجار سببًا في دخول الجنة، وفي الموقف فضيلة من فضائل الإحسان إلى الجار ، وهي أن الجار إن عصى الله فيك ، فينبغي أن تطيع الله فيه ، كما قال الله عز وجل :{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}).سورة فصلت الآية(43 ).
◘◘◘ هكذا كان السلف الصالح يطبقون منهج النبي صلى الله عليه و سلم، إن الله عز وجل يحب الرجل له الجار السوء يؤذيه فيصبر على أذاه، و يحتسبه حتى يكفيه الله بحياة أو موت.
◘◘◘ لكن هذا الحق العظيم قد أهمله كثير من الناس اليوم، وانشغلوا عنه بخصوصياتهم وحب ذواتهم، وقعدوا عن القيام به بسبب أثرتهم وأنانيتهم، ولم يرعوه حق رعايته بسبب جهلهم وضعف إيمانهم، وتربع الدنيا على قلوبهم، فأصبحوا لا يعيشون إلا لأنفسهم، ولا يهمهم إلا مصالحهم، غير مكترثين بما يجب عليهم تجاه إخوانهم وجيرانهم، فماتت فيهم عواطف الأخوة والمحبة، وخفتت في نفوسهم أخلاق السماحة والنجدة، وخلت قلوبهم من المعاني الإنسانية الجميلة، وربما حملهم حب الدنيا والمنافسة على حطامها على إيذاء جيرانهم وظلمهم، والاعتداء على مصالحهم، وغمطهم حقوقهم. وليتهم إذ لم يحسنوا إليهم ويقوموا بحقوقهم عليهم، كفَّوا عنهم ظلمهم وعدوانهم.
♦♦♦ نماذج من أذى الجار♦♦♦
صور الأذى للجيران كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا: التطلع إلى محارمهم، والنظر إلى نسائهم، وتتبع عوراتهم، والتنصت عليهم، والتجسس على أحوالهم، وكشف أسرارهم ونشر قالة السوء عنهم، والوقيعة في أعراضهم، والسعي في الإفساد بينهم، وإذاعة مثالبهم، وطمس مناقبهم، وإيذاؤهم برفع آلات اللهو والغناء المحرم، وكذلك إصدار الأصوات المزعجة، وخصوصًا في أوقات النوم والراحة.
ومن ذلك وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيهم برائحتها، وتزعجهم بأصواتها، وكذلك وضع القمائم والزبائل عند أبوابهم ونحو ذلك.
وشر الجيران من تركه جيرانه اتقاء شره، وتباعدوا عنه تجنبًا لضره، وتقاصروا عنه ليسلموا من عدوانه وكيده.
وأخبث منه من ينتهك محارم جاره، أو يسرق من ماله، وقد سئل النبي (صلى الله عليه وسلم): (أي الذنب أعظم.؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قيل: ثم أي.؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك(رواه البخاري: 4207، ومسلم: 86.
وعن المقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم )لأصحابه: (ما تقولون في الزنا.؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال: فقال: ما تقولون في السرقة.؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره(رواه أحمد: 23905،، والبخاري في الأدب المفرد) .
فلما كان حق الجار على جاره كبيرًا، ومعرفته بأحواله، وقدرته على خيانته وكيده بحكم جواره وقربه أكثر من غيره، كان عدوانه عليه بالزنا بمحارمه أو سرقة ماله أعظم إثمًا وأشد جرمًا.
♦♦♦ الجار الصالح من أسباب سعادة المرء♦♦♦
ولأجل ذلك، فإن من أسباب سعادة العبد أن يوفق بجار صالح يرعى له حرمته، ويعرف له حقه، ويراقب الله تعالى فيه.
يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث خصال من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع .(رواه أحمد: 15409، والبخاري في الأدب المفرد).
ومن كلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه : ( الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق).
وما أجمل قول الشاعر:
اطلب لنفسك جيرانًا تجاورهم لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
وقال آخر:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم كفوا الملام، فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص.
وقال بعضهم: (كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق) ، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم )يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول )[رواه ابن حبان: 1033، والحاكم: 1951، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1443.
]. وأمر بالاستعاذة من شره فقال: (استعيذوا بالله من شر جار المقام، فإن جار المسافر إذا شاء أن يزايل زايل )[رواه النسائي: 5502، وأحمد: 8534، والبيهقي في السنن الكبرى.
◘◘◘ أنّ الجار الصالح هو من موارد التوفيق الإلهيّ للإنسان، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (من سعادة المسلم سعةُ المسكن، والجار الصالح، والمركب الهنيئ).
لذا دعا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يكون انتخاب المنزل الذي يريد الإنسان أن يقيم فيه خاضعًا لدراسة حول الجيران، فقد ورد أنّ رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا رسول الله، إنّي أردت شراء دار، أين تأمرني اشتري، في جهينة، أم في مُزينة، أم في ثقيف، أم في قريش.؟ فقال له رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم): الجوار ثمّ الدار.(
ومن هذا المنطلق، ورد عن الإمام علي عليه السلام: (سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار).
◘◘◘ وأخيرًا إنّ أهمّ جيرة وأعظمها هي جيرة الكمال المطلق غير المحدود بمكان ولا مكان، وإنّما جيرته في جنّة الرضوان، ففي الحديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كان يومُ القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، وينادي منادٍ من عند الله.. أين أهل الصبر؟ ثمّ ينادي منادٍ آخر.. أين أهل الفضل.؟ ثمّ ينادي منادٍ من عند الله عزّ وجل يُسمِعُ آخرَهم كما يُسمِعُ أولَّهم، فيقول: أين جيرانُ الله جلّ جلاله في داره.؟ فيقوم عنُقٌ من الناس، فتستقبلُهُم زمرةٌ من الملائكة فيقولون لهم: ماذا كان عملكم في الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره.؟ فيقولون: كنّا نتحابُّ في الله، ونتبادل في الله، ونتزاور في الله، فينادي منادٍ من عند الله: صدق عبادي، خلُّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب).
◘◘◘ هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده ، وما كان من خطأ أو نسيان فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.