♦♦♦ قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
قال ابن كثير: (مَا يَلْفِظُ أي: ابن آدم مِنْ قَوْلٍ أي: ما يتكلم بكلمة إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ: أي ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر ملك الشمال.
وليست هذه الكتابة خاصة بالقول فقط، وإنما شاملة للفعل أيضاً.
لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10-12] .
♦♦♦ الله تبارك وتعالى حذرنا من أن نطلق ألسنتنا في ما لا خير لنا فيه لأنه أعلمنا في هذه الآية بأن علينا ملائكة يكتبون أقوالنا، وهؤلاء الملائكة لا يقتصرون على كتابة الأقوال، بل يكتبون الأفعال أيضاً، لكن الله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية أنهم يراقبون ما يخرج من فم الإنسان وذلك لأن أكثر أعمال الجوارح أعمال اللسان.
وأن الملكين يكتبان ما يخرج من فم الإنسان مما هو ليس سبْق لسان، لأن سبق اللسان لا يدخل تحت التكليف، الله تعالى ما كلف عباده بالتحفظ من سبق اللسان بحيث لا يصدر منهم شيء، وإنما كلّفنا بأن نحفظ ألسنتنا من أن نتكلم بإختيارنا بما حرّم علينا.
فالملكان ، هذان كاتبان موكّلان بابن آدم لكل شخص من ذكر وأنثى، أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات، ثم هما يكتبان غير الحسنات والسيئات أي كل ما يخرج من فم الإنسان.
♦♦♦ يقول الله جلَّ جلاله: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].
ومفهوم الأمانة في الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله، مُؤتَمَنٌ عليها؛ فهو محاسب على الأقوال، ومُؤتَمَن عليها.
♦♦♦ إذًا فالكلمة أمانة، فإمَّا أن تؤدي كلمة صادقة نافعة مفيدة، فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة سيئة، وكلمة خبيثة، وكلمة تدعو إلى باطل، وتؤيد الشرَّ والفساد؛ فتلك كلمة تُحاسَب عليها.
♦♦♦ فالكلمة ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا. فالكلمة أمانة ضخمة في دين الله تعالى وأننا مسئولون بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، فليتق الله كل منا ولنعلم أن كل كلمة نتلفظ بها قد سُطِّرت علينا ﴿ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ (طه: 52) يقول الله جل وعلا ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (ق: 16 – 18) وقال جل وعلا: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً ﴾ الإسراء. وقال تعالى ﴿ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾ (الانفطار: 10، 11) وقال جل وعلا: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً ﴾ (الإسراء: 36).
♦♦♦ ولعظم الأمانة أوصي النبي( صلي الله عليه) بالحفاظ عليها فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )يا معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه.؟ قال: بلى يا رسول الله.! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا أخبرك بملاك ذلك كله.؟
قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ: أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا.؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ.! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).رواه الترمذي. وقال صلي الله عليه وسلم (إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم) [أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، والترمذي في سننه،).
♦♦♦ قد تتكلّم في حياتك بكلمات.؟ هذه الكلمات ستكون وبالاً عليك في دنياك وآخرتك، وسيخفُّ بها ميزان أعمالك، فأنت محاسَب على الأقوال؛ كما أنت محاسب على الأعمال؛ بل الأقوال أشدّ، فكم من مُسيطِر على نفسه في أعمال جوارحه، لكنَّه أمام لفَظَات اللسان عاجز، يُطلِق للسانه العِنان ليقول ما يشاء؛ فتعظم الأوزار والآثام.
♦♦♦ إنَّ ربَّنا جلّ وعلا أخبرنا أن أقوالنا مُحْصاة علينا: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]. وقال: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 24 - 25].
♦♦♦ إنَّ كلماتك تُعبِّر عمَّا انطوى عليه ضميرُك، كلماتك تُعبِّر عمَّا استقرَّ في قلبك، كلماتك تُعبِّر عن اتجاهك الفِكري، ومدى ما وصل إليه اتجاهُك وتفكيرُك، إذًا فاللسان تُرْجُمَان القلب، يتكلم هذا بلسانه فتستطيع أن تُقوِّم فكرَه ورأيَه، وتستطيع في الغالب أن تطّلع على أفكاره ومكنوناته من خلال تلكم الكلمات التي تلَفَّظَ بها، ولذا قال الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم) مخبرًا له عن حال المنافقين، وأنّه جلَّ وعلا قادر أن يُطْلِع نبيَّه على أعيانهم كلهم، لكن حكمة الله تقتضي عدم ذلك، وإن عَلِم ما عَلِم منهم فغيرُهم لا يعلَمهم، إلا أن الله جلّ وعلا أخبر نبيه بصفة عامة .
وهي الأقوال فقال: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]، فما انطوى عليه الضمير لا بدّ أن يكشفه اللسان، وإن تَحَفَّظ ما تَحَفَّظ، فإنّ فَلَتات لسانه تُنبئ عما في مكنون قلبه.
♦♦♦ إذًا فلنتثبَّت في ألفاظنا، ولنحاسب أنفسنا قبل أن تزلَّ القدم، ولنَعْلَم أن الكلمات السيئة كم هدمت من بناء أعمال صالحة.! وكم أوردت صاحبها موارد العَطَب والهلاك.!
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلّم بالكلمة من سَخط الله، لا يظن أن تبلغ ما بلغت، يَكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، وإن العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه).
♦♦♦ فالكلمة أمانة، فإمَّا أن تؤدي كلمة طيبة كلمة حق صادقة نافعة فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة خبيثة، وكلمة أريد بها باطل، إما كلمة تدخل بها الجنة، أو كلمة تهوى بها في النار سبعين خريفا..
تعلمون أن المرء يوم القيامة يحاسَب على أقواله كما يحاسب على أعماله وأفعاله، وتعلمون أن الله عز وجل يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، ولعله لا تغيب عنكم الآية الكريمة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[إبراهيم: 24-26].
(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].
♦♦♦ والمؤمن الحق يشعر بقيمة كلمته حيث يعرف أنها معراج للطهر وسبيل إلى الصلاح وفي ذلك أجمل عزاء حينما تنازعه نفسه ليحارب أرباب الكلام في كثرته وتفلته دون حسيب أو رقيب يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا](سورة الأحزاب: الآيتان 70-71).
♦♦♦ إنّ خدمة هذا الدين أمانة في أعناق الجميع في أقوالنا وأعمالنا، فلابد إذا أردنا أن نعالج قضية من القضايا أن نعالجها من خلال كتاب ربِّنا وسُنَّة نبينا وأخلاق إسلامنا، ففيهما الخير والكفاية لمنِ اكتفى بهما.
♦♦♦ وأمانة الكلمة تنقسم إلى:
♦ أولا: قول الحق.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: (ما من صدقة أحب إلى الله تعالى من قول الحق).
♦ فكم من شهادة زور تسببت في هدم بيوت.؟
♦ وكم من شهادة حق حافظت على الأرواح والأرحام.؟
وكيف لا وقد أعدها رسول الله من الكبائر في الصحيحين عن النبي ( صلى الله عليه وسلم) : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك بالله، ثم عقوق الوالدين) وكان متكئا فجلس، ثم قال: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت..
ولنرى أهمية قول الحق حتى في البيع والشراء: التجارة من المعاملات اليومية بين الناس التي انتشر عن طريقها الإسلام في البلاد لأمانة التجار وصدق كلمتهم.
فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) [رواه البخاري 4/275 ومسلم 1532].
♦♦♦ وهكذا أيضا على الراعية نصح الراعي فقد حدث مرة أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب أمير المؤمنين - رضي الله عنه: اتق الله يا أمير المؤمنين. فردّ عليه آخر: تقول لأمير المؤمنين اتق الله .؟!
فقال عمر: دعْه فليَقلها، فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم.
وأخرج البيهقي يقول المؤرخون: (كان لقول الحق أثر في نجاح سياسة عمر التجديدية، وكان لبطانته أثر في شد أزره وسداد رأيه وصواب قراره).
وأيضا أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قال لعمرو من مهاجر: (إذا رأيتني قد مِلت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر، ما تصنع؟!).
♦♦♦ إنَّ قول الحق من أمانة الكلمة وحفظها في الحياة عامة، وفي الأزمات خاصة. فأمانة الكلمة: في قول الحق في أي مكان وفى الأزمات يحملها يوسف - عليه السلام - في الحبس وداخل الزنزانة يسأل عن فتيا ورؤيا، فلا يجيب عن الرؤيا ولا عن الفتيا حتى يقول: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[يوسف: 39].
فإذا الله معه، يفرج كربه بكلمة حق قالها فكم مرة قلت الحق فنصرك الله به ومؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ولكنه ينبعث في فجوة من فجوات الغيظ والمعاناة فيقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر: 28].
لم يخف من ذي سلطان ظالم ولم يخف الموت فليس عجبا إنه الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب نطق اللسان بالحق وبالحكمة وكان لسان الحال يقول: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) والنموذج الثالث في هدهد، الهدهد يحمل هم الدعوة ويقول قول حق ينبه بها الأمة لأن تهب لنصرة الحق في أي مكان.
♦♦♦ والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء دون شعور يتبعها بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ (المؤمنون: 1 – 3).
♦♦♦ ويظهر لنا قيمة الكلمة من خلال هذه النقاط:
♦ 1ـ أن الكلمة وسيلة البيان.
♦2ـ إنها وسيلة للإثبات والاعتراف: فحينما يريد الإنسان أن يثبت شيئاً مادياً أو معنوياً فهو بحاجة إلى الكلمة.
♦3ـ أنها وسيلة للنفي والإنكار: • فإذا نُسب إلى الإنسان شيء ولم يعترف به، فوسيلته للنفي الحقيقي هي الكلمة.
• وإذا أراد تغيير المنكر وإزالته، فوسيلته القريبة والميسرة هي الكلمة .
♦4ـ الكلمة هي البريد إلى القلب والعقل، وسبيل الوصول إلى الإقناع والتفاهم.
♦♦♦ فالكلام أسيرك.. فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره.. وإذا أردت أن تستدل على مافي القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فانه يطلعك على مافي القلب شاء صاحبه أم آبى..
♦♦♦ قال يحي بن معاذ: (القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها فانظر إلى الرجل حين يتكلم فان لسانه يغترف لك مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه ).
♦ 5ـ الكلمة السبيل لإعلاء كلمة الحق وهي السبيل لرد الباطل.
♦6 ـ الكلمة السبيل لكسب القلوب.
♦7ـ الكلمة هي السبيل للدفاع عن النفس.
♦♦♦ خطورة الكلمة
فالكلمة سلاح خطير، وهي سلاحٌ ذو حدَّين، إما أن يؤدي إلى البناء والإعمار، وإما أن يؤدي إلى الهدم والخراب؛ ذلك لأن الكلمة هي التي تشكِّل التصوُّر، وتوجِّه الفكر، وتحرِّك الوجدان، ومن ثمَّ تحدِّد الموقفَ وتدفع إلى السلوك، فإن كانت الكلمة صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخير والبناء، وإن كانت كاذبةً باطلةً فاسدةً قادت إلى الشرِّ والدمار.
♦♦♦ بعض الأمثلة علي خطورة الكلمة من القرآن الكريم:
♦♦♦ حديث الإفك.
إذا أردتَ أن تتعرف على خطورة الكلمة بحق فاعلم أنه بسبب كلمات قليلة كاذبة طيَّرها رأس النفاق (ابن سلول)، وتلقفتها أبواق الدعاية، وعصابات الإرجاف والنفاق، تطايرت هذه الكلمات لتنال من أشرف وأطهر عرض، ألا وهو عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن وقع سهمها خرجت معه)، وفي غزوة بني المصطلق ضرب النبي القرعة بين نسائه فوقع السهم على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت عائشة مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
تقول عائشة: (وكنت أُحْمَل في هودجي، وأُنْزَل فيه، وكان هذا بعد نزول آية الحجاب ). والهودج هو: محملٌ أو رحلٌ يوضع على ظهر البعير لتركب فيه المرأة؛ ليكون ستراً لها، فكانت عائشة بعد نزول الحجاب تركب في هذا الهودج، ويُنْزَل هذا الهودج وهي فيه.
فلما انتهى رسول الله من غزوِه وقَفَل أي: عاد، وقرب من المدينة، وقف الجيش في مكان، وأرادت هذه الزهرة التي نشأت في بستان الحياء أن تقضي حاجتها، فانطلقت عائشة بعيداً عن أعين الجيش لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى هودجها ومكانها التمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت لتبحث عن عقدها في موضع قضاء شأنها، فأخرها البحث، فعادت مرة أخرى فلم تجد بموضع الجيش من داعٍ ولا مجيب.!
فجلست عائشة رضي الله عنها في موضعها، فغلبتها عينها فنامت، وهي تعتقد أن القوم إذا فقدوها سيرجعون إليها مرةً أخرى، وكان من وراء الجيش صفوان بن المعطل السلمي رضوان الله عليه، فاقترب صفوان فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ عائشة وقد كان يراها قبل نزول آية الحجاب.
♦♦♦ تقول عائشة: (فاستيقظتُ من نومي على استرجاعه أي: على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ راحلته فركبتُها، ووالله.!
ما سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، ثم انطلق يقود بي الراحلة، فأدركنا الجيش وقد نزلوا موغلين في نحر الظهيرة أي: في وقت شدة الحر فهلك في شأني مَن هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.
وفي بعض الروايات في غير الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: ومن هذا.؟ قالوا: صفوان. فقال الخبيث المجرم وما أكثرهم اليوم زوج نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقودها.؟!
والله.! ما نجت منه، وما نجا منها.!
♦♦♦ فقال قولة عفنة خبيثة شريرة، وتلقفت هذه الكلمات أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون هذه الكلمات؛ لتنال من عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). رُحماك.. رحماك يا ألله.! رسول الله يُتَّهم في عرضه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين.؟! رسول الله يُتَّهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته.؟!
♦♦♦ وهاهي عائشة رضوان الله عليها تلكم الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسُقيت بمداد الوحي على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ تُرمى في أشرف وأعز ما تعتز به كل فتاة شريفة..
♦♦♦ وهذا هو صديق الأمة الأكبر، ذلكم الرجل الرقيق الوديع الحليم الذي بذل ماله وروحه، بل وبذل أولاده لدين الله؛ يُتَّهم بهذا الاتهام الخطير المريب إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه..
♦♦♦ وهذا هو صفوان بن المعطل يُتَّهم في عقيدته وفي دينه يوم أن يُرمى بخيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.!
♦♦♦ تقول عائشة رضوان الله عليها: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أعلم شيئاً عن قول أهل الإفك، إلا أنه يريبني أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنتُ أرى حينما أشتكي، بل كان يدخل رسول الله عليّ ويقول: (كيف تيكم؟! ثم ينصرف) فخرجت ذات يوم لقضاء حاجتها مع أم مسطح، فأخبرتها بقول أهل الإفك، فازدادت مرضاً على مرضها، فعاد إليها الرسول يوماً فقالت: أتأذن لي يا رسول الله أن أذهب إلى أبَوَي.؟
♦♦♦ تقول: وأنا أريد أن أتحقق الخبر من قبلهما، فأذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد ذلك ذهب رسول الله صلي الله عليه وسلم يوماً لزيارة عائشة، فسلم وجلس إلى جوارها، وكانت امرأةٌ من الأنصار قد جلست إلى جوارها تبكي لبكائها، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إلى عائشة وقال: (يا عائشة.! إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عزَّ وجل، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه)
لا إله إلا الله.! كلمات تهدهد الحجارة، وتفتت الكبد.!
♦♦♦ عائشة تسمع هذا من رسولها ومن حبيبها وزوجها صلى الله عليه وآله وسلم.!
فلما سمعت عائشة هذه الكلمات جف الدمع في مقلتيها، ونظرت إلى أبيها صديق الأمة الأكبر وهي تريد أن يرد أبوها عنها هذا الاتهام، وهذه الكلمات المزلزلة فقالت: (يا أبت.! أجب عني رسول الله، فنظر إليها الصديق الذي هدهد الألم قلبه، وعصر الإفك فؤاده.
نظر إليها نظرة استعطاف وهو يقول: (والله.! يا ابنتي.! ما أجد ما أقوله لرسول الله) فنظرت البنت المسكينة إلى أمها وقالت: (يا أماه.! أجيبي عني رسول الله) فقالت الأم المسكينة التي عصر الألم كبدها وفؤادها (والله.! يا بنيتي.! ما أجد ما أقول لرسول الله) فبكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: والله.! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ (يوسف: 18)
واضطجعت في فراشها وهي تقول: والله.! إني لَبريئة، وإن الله مبرئي ببراءة؛ ولكني ما ظننتُ أن يُنزل الله في شأني وحياً يُتلى، فلَشأني في نفسي كان أحقر من أن يُنزل الله فيَّ قرآناً يُتلى.
♦♦♦ بلا أدنى ريب تُعدّ الكلمة مسؤولية كاتبها وقائلها، بل والحرف أمانة على ناسخه وناطقه.
♦♦♦ ولقد حرم الله الكذبة العابرة التي تقال في المجلس العارض فكيف بكذبة الكاتب وفرية القلم التي تخلد على مرِّ العصور ، وتطير في الأفاق ، وليسألن عما كتبوا.