الفتنة وأثرها وموقف الإسلام منها.!؟
نحن نعيش الآن واقعًا مليء بفتن لا يعلم بها إلا الله، فتن قتل وهرج، فتن فضائيات وإعلام مضلل، فتن إنترنت وشائعات وانفتاح على العالم، كلٌ يكتب ما يريد دون وازع من ضمير يردعه إلا من رحم ربي، وغيرها الكثير من الفتن التي نحتاج فيها عون الله تعالى أن يثبتنا ويبصرنا فيها بالحق.
والفتن ابتلاءات وأحوال قد تحلّ بالنّاس، أفردًا ومجتمعات.
لماذا نحن فقط دائماً في خوف من اشتعال الفتنة.؟
لماذا مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي فقط مسرح لمثل هذا الاشتعال.؟ وأولاً وقبل كل شيء ما هي الفتنة أصلاً.؟ وما هي مكوناتها.؟
ولا أظن أن مسلما أو مسلمة يعجز عن تذكر مصيبة أو أكثر من المصائب التي حلت بالأمة من جراء الفتن التي سعى لها من لا يخافون يوم الوقوف بين يدى الجبار، وآثارها الباقية بيننا مع مرور كل هذه القرون، ومع ذلك مازال كثير من الناس يمارس الفتن والإفساد بين الناس ،ويستمتع كلما أوقد نارا بينهم ليس هو ولا أحبته بمأمن من لهيبها.
والفتنة سبب رئيس من أسباب استفحال أزمتنا السياسيّة، وأزماتنا الاجتماعيّة، السعي بالفتنة بين الناس التي حذرنا منها رب العالمين في كتابه العزيز حيث قال: (... وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ .) وقال(..وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتل)، وقد يستغرب المرء أن تكون الفتنة التي قد تكون بكلمة لا يلقى المرء لها بالا أشد أو أكبر من القتل، ولكن بقليل من التدبر يتبين بأن المراد على سبيل الحقيقة باعتبار الأثر المترتب على الفتنة.
ما الفتنة؟
الفتنة كلمة مشتركة تقع على معان كثيرة، تقع على الشرك وهو أعظم الفتن كما قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] أي حتى لا يكون شرك، وقال جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217].
وتقع الفتنة أيضا على التعذيب والتحريق كما قال جل وعلا: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] وقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] والمراد هنا العذاب والتحريق، فتنوهم يعني عذبوهم.
وتطلق الفتنة أيضا على الاختبار والامتحان كما قال جل وعلا: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] يعني اختبارا وامتحانا، وقال جل وعلا: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] يعني اختبارا وامتحانا حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله ومن يقوم بحق الله ويتجنب محارم الله ويقف عند حدود الله ممن ينحرف عن ذلك ويتبع هواه.
وتقع أيضا على المصائب والعقوبات كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] يعني: بل تعم.
ظهور الفتن
ظهرت الفتن في الإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين حيث ارتدت بعض قبائل العرب في عهد أبو بكر الصديق فقام بما يسمى بحروب الردة، أما الفتن التي تركت أثرا في الإسلام فهما فتنتين فتنة موت عثمان التي تعتبر أول فتنة في الإسلام كما قال حذيفة بن اليمان وموت الحسين التي أدت إلى افتراق بعض المسلمين، وقد ورد في أحاديث نبوية أن فتن أخر الزمان هي الأشد حيث تكون كل فتنة أشد من التي قبلها. وقد أخبر النبي أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل حتى تزلزل الإيمان فيصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، كلما ظهرت فتنة قال هذه مهلكتي ثم تنكشف ويظهر غيرها فيقول هذه هذه، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة. فكثرة ظهور الفتن بأنواعها هي من أشراط الساعة التي بدأت تتضح في هذا الزمان وأصبح الأمر محاطا بأنواع الفتن منها فتنة النظر الحرام من خلال ما يعرض في القنوات الفضائية والمجلات ومواقع الأنترنيت، وما يتناقله الناس من صور ومقاطع الفيديو المحرمة عبر الهواتف والحواسب وغيرها، وفتنة المال الحرام كأموال الربا والرشاوي وبيع البضائع والملابس المحرمة فآكل المال الحرام لا يستجيب الله دعائه وفتنة اللباس الحرام سواءاً من الرجال أو النساء وكثرة وقوع الناس في الفتن حتى يصير متجنبها والهارب منها غريباً بين الناس.
وتقع الفتنة أيضا بأسباب الشبهات والشهوات، فكم من فتن وقعت لكثير من الناس بشبهات لا أساس لها.
بشبهات أضلتهم عن السبيل وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها، وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله.
إذا أقبلت الفتنة من بعيد عرفها كل عالم وكل عاقل، ولكن السفهاء والحمقى - وهم من أيقظها - لا يعرفونها إلا حين تطحنهم برحاها، وتحرقهم بنارها، وتنتشر في كل مكان انتشار النار في الهشيم.
(الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) كما ورد في الأثر، وفي كل أحقاب التاريخ ووقائع الحاضر الذي نعرف فإن الفتن لا يوقظها عالم.. ولا عاقل.. بل يوقظها الجهلاء.. والحمقى.. والسفهاء.. والحاقدون.. ولكنهم لا يلبثون أن يصطلوا بنارها وهم لا يشعرون، فهم صم بكم لا يبصرون..
لا يوجد أبشع من الفتن على مستوى المجتمعات والأمم، وعلى مستوى الأسر أيضاً، حيث قد يشعل سفهاء الأسر الفتنة بين أفرادها على أوهى سبب وأوهن إشاعة.!
والذين يثيرون الفتن ويوقظونها من نومها هم الحمقى والسفهاء وهم يحسبون - لجهلهم - أنهم يحسنون صنعاً ولا يدركون سوء عملهم إلا بعد فوات الأوان لأن الفتنة إذا أقبلت عرفها العلماء وإذا أحرقت عرفها السفهاء) فالحمقى، والسفهاء، والجهَّال، هم من يوقظ الفتن ويوقدها ولا يشعرون بنارها حتى تحلق حياتهم وتحرق أجسادهم:
وإذا كثر الحمقى والسفهاء والجاهلون في مجتمع من المجتمعات، فقد أذن الله بخرابه وفساده لأن هؤلاء فاسدون في ذواتهم، ويعدون بفسادهم الدهماء من الناس، وينشرون الإشاعات والأكاذيب ويثيرون المشكلات على كل المستويات: بين الأصدقاء، وفي الأسرة الواحدة، وفي القرية الواحدة، ثم في المدينة والمجتمع حيث يزحف الفساد راكباً مطية الفتنة فلا يدع أحداً إلا آذاه وأصابه بشر..
قد يقال: وما هي مصلحة السفهاء والحمقى والجهال من نشر الإشاعات وإثارة الفتن وتغير القلوب وإفساد الناس على الناس؟
والجواب أن كثيراً من السفهاء والحمقى والجهلة طبعهم هكذا.
إن الفتن داء مهلك، وشر يفتك، والعاقل مأمور بطلب السلامة والعافية، واجتناب الفتن جميعها، فإن ذلك من أعظم أسباب السعادة، ونقيضها من أسباب الشقاء والتعاسة، ففي الحديث النبوي: (إن السعيد لمن جنب الفتن)، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين بالاستعاذة من الفتن بقوله:
(تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن).
ومن لعب بنيران الفتن فتوشك أن تحرقه، ولذلك قيل: من أوقد نار الفتنة كان وقوداً لها، وقال بعض الحكماء: من سد فم الفتنة كُفي شرها، ومن أضرم نارها صار طعاماً لها.
يقول جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] وتحكيم الرسول هو تحكيم الكتاب والسنة، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فما عدا حكم الله فهو من حكم الجاهلية، قال جل وعلا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
فالمخلص من الفتن والمنجى منها بتوفيق الله هو بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة الذين حصل لهم الفقه في كتاب الله عز وجل والفقه بسنة رسوله ﷺ ودرسوهما غاية الدراسة وعرفوا أحكامهما وساروا عليهما.
يقول النبي ﷺ: إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل أخرجه البخاري في صحيحه. فهذه الفتن هي الفتن التي لا يظهر وجهها ولا يعلم طريق الحق فيها، بل هي ملتبسة، فهذه يجتنبها المؤمن ويبتعد عنها بأي ملجأ، ومن هذا الباب قوله ﷺ: يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن أخرجه البخاري في الصحيح
ومن هذا قوله ﷺ لما سئل: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره والمقصود أن هذا عند خفاء الأمور وعلى المؤمن أن يجتنبها، أما إذا ظهر له الظالم من المظلوم والمبطل من المحق فالواجب أن يكون مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، كما قال ﷺ: انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله، كيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصره أي منعه من الظلم هو النصر.
ولما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم اشتبهت على بعض الناس، وتأخر عن المشاركة فيها بعض الصحابة من أجل أحاديث الفتن كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وجماعة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع علي؛ لأنه أولى الطائفتين بالحق، وناصروه ضد الخوارج وضد البغاة الذين هم من أهل الشام لما عرفوا الحق وأن عليا مظلوم، وأن الواجب أن ينصر، وأنه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة المطالبة بقتل عثمان.
والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ما قال فاعتزلوا، قال: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.
كَفِّ اللِّسانِ فِي الْفِتْنَةِ
ولأبِي داود، عن ابن عمر. قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم( سَتَكُونَ فِتْنَةٌ تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ، قَتْلاَهَا فِي النّار. اللِّسانُ فيها أشدُّ من وقعِ السّيفِ).
ولابن ماجه: عن ابن عمر: مرفوعاً: (إيّاكم والْفِتَنَ؛ فإنّ اللِّسانَ فيها مثل وقع السّيف).
ولَهما، عن أبي هريرة: أنّه سَمِع رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (إنّ الرّجلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكِلْمَةِ، لا يُلْقِي لَها بالاً، يَهْوي بَها فِي النّار، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ).
ولأبِي داود عن أبي ذر: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم( يا أبَا ذَرٍّ)، قلت: لبّيك يا رسول الله! وسعديك وذكر الحديث. قال فيه: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَخَذَتِ النّاسَ مَوْتٌ، تكون الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ؟ )، يعني: الْقَبْر قلت: الله ورسولُهُ أَعْلَمُ، أو قال: ما يَخْتَارُ الله لي ورسولُهُ. قال: (عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ)، أو قال: (تَصْبِرْ). ثُمَّ قال لي: (يَا أبَا ذَرٍّ! )، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ الله! وسَعَدَيْكَ. قال: (كَيْفَ أَنْتَ! إذا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزّيْتِ قَدْ غَرِقَتْ بالدَّمِ؟ )، قُلْتُ: مَا خَارَ الله لِي ورسولُه. قال: (عَلَيْكَ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ)، قلتُ: يا رسولَ الله! أفلا آخذُ سَيْفِي فَأَضَعُهُ عَلَى عَاتِقِي؟ قال: (شَارَكْتَ الْقَومَ إِذاً)، قال: قُلْتُ: فماذا تَأْمُرُنِي؟ قال: (تَلْزَمُ بَيْتَكِ)، قلتُ: فإن دخلَ عَلَى بَيْتِي؟ قال: "فَإِنْ خَشِيْتَ أَن يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ).
زاد ابن ماجه: (كيفَ أنْتَ وَجَوائِحُ تُصِيبُ النّاسَ، حتّى تَأْتِي مَسْجِدَكَ، فَلا تستَطِيعُ أَنْ تَرْجِعَ إلى فِرَاشِكِ ولا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِن فِرَاشِكَ إلى مَسْجِدَك؟). قُلْتُ: الله ورسولُهُ أعلم، أَوْ قال يخَتارَ الله لِي وَرُسُولُه. قال: (عَلَيْكَ بالعِفّة).
وفي حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: وذكر الْفِتْنَةَ. قال( الْزَمْ بَيْتَكَ)، قيل: فَإِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ قال: (فَكُنْ مِثْلَ الْجَمَلَ الأَوْرق الثَّفَّال، الّذي لا يَنْبَعِثُ إِلاّ كرهاً، ولا يَمْشِي إلاّ كَرْهاً). رواه أبو عبيد.
ولأبِي داود عن الْمِقْداد مرفوعاً( إنّ السَّعِيدَ لِمَن جُنِّب الْفِتَن. إنّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّب الْفِتَن. وَلِمَن ابْتُلِيَ فَصَبَرَ. فَوَاهاً).
والمسلم يتألم لمصاب المسلمين أينما كانوا، فالمسلمون جميعاً كالجسد الواحد، تجمعهم أخوة إيمانية، ويتألمون لمصاب بعضهم، وإذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والعالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى التضامن والتلاحم، قيادات وشعوباً، ليخرج من أزماته ويتعافى منها.
وجب التعامل مع الفتن لزوم التعقل والحكمة، وعدم التهور والطيش، والانسياق وراء العواطف دون تأمل في العواقب، فالفتن لا تعالج بفتن، وفي الفتن تطيش العقول، وتثور العواطف، وتختلط الأمور، فلا غنى للمرء عن الأناة والتؤدة، وضبط اللسان.
وأن نزن كل ما يرد إلينا وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالموازين العقلية والمصلحية والوطنية، وأن نفكر بعقولنا قبل عواطفنا، فكم تبث وسائل التواصل من رسائل موجهة وإشاعات وأسباب للكراهية والأحقاد، وتوغر الصدور.
ومن أهم ما ينبغي التسلح به في الفتن الصبر، فإنه خير عدة، واللجوء إلى الله تعالى بالدعاء، والتضرع بين يديه بتفريج الكرب والبلاء، وتعليق القلوب به جل شأنه، وحسن الظن به، وعدم اليأس والقنوط من رحمته، فهو سبحانه قريب مجيب، قال تعالى:
{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}، وإذا تأخرت الإجابة وطال الكرب فلحكمة ورحمة، فكم من محن في طياتها منح، وكم في الغيب من أسرار، ومهما اشتد الأمر فسيعقبه الفرج القريب، والله تعالى يقول: {إن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} ولن يغلب عسر يسرين.
وخروج أهل الفتن والضلال والإرهاب يصاب عامة الناس بالذعر والخوف والانكماش، فإن الأمن هو الأساس في الطمأنينة والراحة والقدرة على العمل والعطاء والانتاج، وبدون الأمن والاستقرار تعود كل المعطيات مجرد أصفار على اليسار..
كما أن الأحمق لا يميز بين ما ينفع وما يضر،
(عدوُّ عاقل خير من صديق أحمق..)
أجمع العقلاء في القديم والحديث على أن البطر وازدراء النعمة ظلم عظيم، ويؤدي إلى زوال النعمة..
وأن الشكر هو أسهل وأجمل وسيلة للسعادة، وبالشكر تزيد النعم..
أما المعاصي وبث الشائعات الكاذبة والعمل على إيقاظ الفتنة فإن هذا كله يزيل النعم ويزيد التخبط ويودي بصاحبه للمهالك، وإذا زاد الذين لا يشكرون نعمة الله ولا يقدرونها ولا يثمنون ما هم فيه من رخاء وأمن واستقرار فينعقون، ويتبعون كل ناعق، ويدعون للفتنة سراً وبأسماء مستعارة عبر النت، هؤلاء هم خراب السفينة وسبب زوال النعمة، قال الإمام الشافعي:
(إذا كنت في نعمة فارعها* فإن المعاصي تزيل النِّعم
وحُطها بطاعة رب العباد* فربُّ العباد سريع النقم
وإيّاك والظلم مهما استطعت* فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى* لتبصر آثار من قد ظلم).
واعتزال الفتنة، والهرب من أهلها أصل عظيم من أصول هذا الدين؛ لمصلحة العبد وصيانة دينه، وسلامة يده ولسانه من دماء المسلمين وأعراضهم، ولمصلحة الأمة بإخماد الفتنة، وتقليل الخسائر فيها؛ كما في حديث كُرْزِ بن عَلْقَمَةَ الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله، هل لِلإِسْلاَمِ من مُنْتَهَى؟ قال: (نعم، أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ أَرَادَ الله بِهِمْ خَيْراً أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الإِسْلاَمَ)، قال: ثُمَّ مَهْ؟ قال: (ثُمَّ تَقَعُ الْفِتَنُ كَأَنَّهَا الظُّلَلُ)، قال: كَلاَّ والله إن شَاءَ الله، قال: (بَلَى والذي نفسي بيده، ثُمَّ تَعُودُونَ فيها أَسَاوِدَ صُبًّا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ). رواه أحمد. وصححه ابن حبان وزاد في روايته: (فخير الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي الله ويذر الناس من شره).
في هذا الحديث الشريف يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية النجاة من الفتن وحدد ذلك بعدة طرق وهي:
أن يأخذ الإنسان بما يعرف: والمقصود: أن يأخذ الإنسان بما يعرف أنه الحق ولا يدور في فلك الشبهات، ولا يصغي للبدع وأهل الأهواء ومصدره في ذلك الكتاب والسنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي) (حسنه الألباني في منزلة السنة:13).
يدع ما ينكر: ففي الحديث الصحيح قال النواس بن سمعان الكلابي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) (المسند الصحيح)، وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) (سنن الترمذي، حسن صحيح).
الإقبال على العلماء: فهم ورثة الأنبياء ومنارات الهدى فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخير عادة والشر لجاجة ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) (حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه).
ترك أمر العوام: فقد قال علي رضي الله عنه: (الناس ثلاث: فعالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق).
التسلح بالإيمان والتقوى. وقال تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد:28].
التوكل على الله: فقد قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق من الآية:3].
اعتزال الفرق والأحزاب: عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دخن)، قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) (صحيح البخاري:7084). المعاني: (الدخن): قيل الغل وقيل الحقد والحسد، وقيل فساد في القلب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرًا خالصًا بل فيه كدر، قال البيضاوي: (المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان والعض بأصل شجرة كناية عن مكابدة المشقة(،(هم من جلدتنا): أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا. وقال الإمام الطبري: (وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحد في الفرقة ويعتزل الجميع خشية من الوقوع في الشر وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها).
الاستغفار واللجوء إلى الله والاستعانة بالصلاة: قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88]. عن أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله تعالى عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا، يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه الكرام لكي يصلين- رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) (صحيح البخاري:1126).
التعوذ بالله من الفتن. عن: عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) (البخاري
.
تمني الموت خشية الفتنة. يجوز تمني الموت خشية الفتنة ولا يتعارض ذلك مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي) (صحيح البخاري:6351). فلقد قال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف من الآية:101]. وقالت السيدة مريم عليها وابنها السلام: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم:23]. وعن محمود بن لبيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خيرًا له من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب» (صحيح الجامع:139).
الفرار من الفتن. يقول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن) (صحيح البخاري:7088) المعاني: (شعف الجبال): رؤوس الجبال. (مواقع القطر): بطون الأودية. والحديث يدل على كثرة الفتن التي ستنزل بالعباد لدرجة أن المسلم سيكون خير ما يفعله فرارًا بدينه أن يرعى الغنم بين الجبال والأودية، نسأل الله السلامة.
الحذر من الشائعات والروايات الواهية ونقل الأخبار المكذوبة. وهي ظاهرة في زمننا الحالي فيلاحظ انتشار القصص والروايات الواهية الضعيفة وقت الفتنة، فيكثر القُصّاص الذين يوردون الحكايات والقصص التي لا أصل لها، ووسائل التكنولوجيا الحديثة ساعدت في انتشار مثل تلك القصص والشائعات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لم يُقصّ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان إنما كان القصص زمن الفتنة).
النهي عن المنكر. فعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: (أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [ المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب) (سنن الترمذي:2168، صحيح).
النهي عن قتال المسلم أو تعريضه للهلاك. قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة من الآية:2]. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضيَّق منزلًا، أو قطع طريقًا، أو آذى مؤمنًا، فلا جهادَ له) (صحيح الجامع:6378، صحيح) .
قال ابن القيم: (إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين)، عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله).
وقد يُكْرَه المسلم على الخروج من منزله ليحضر الصف في قتال الفتنة، فإن خرج وقف في الصف، وكفَّ يده عن القتال؛ كما في حديث أَبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، ألا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فيها خَيْرٌ من الْمَاشِي فيها وَالْمَاشِي فيها خَيْرٌ من السَّاعِي إِلَيْهَا، ألا فإذا نَزَلَتْ أو وَقَعَتْ فَمَنْ كان له إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كانت له غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كانت له أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ)، قال: فقال رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ من لم يَكُنْ له إِبِلٌ ولا غَنَمٌ ولا أَرْضٌ، قال: (يَعْمِدُ إلى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ على حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إن اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بَلَّغْتُ)، قال: فقال رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إن أُكْرِهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بِي إلى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أو إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أو يجئ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قال: (يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ من أَصْحَابِ النَّار) رواه مسلم.
وهذا الحديث يدل على الكف عن القتال في الفتنة ولو أُكره عليه، فإن دخل عليه مسلم في بيته يريد مقاتلته فالأفضل أن يكف يده عن مقاتلته ولو أدى ذلك إلى قتله؛ فقتله خير له من الولوج في الفتنة والتلطخ بدم مسلم، كما جاء في حديث سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إن دخل عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( كُنْ كَابْنَيْ آدَمَ) رواه أبو داود.
وفي حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قتال الفتنة( اقْعُدْ في بَيْتِكَ وأغلق عَلَيْكَ بَابَكَ)، قال: فإنْ لم أُتْرَكْ؟ قال: (فَائْتِ من أنت منهم فَكُنْ فِيهِمْ)، قال: فَآخُذُ سلاحي؟ قال: (إِذن تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فيه وَلَكِنْ إنْ خَشِيتَ أن يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فألق طَرَفَ رِدَائِكَ على وَجْهِكَ حتى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وإثمك) رواه أحمد.
قد يظن بعض الناس أن هذه الأحاديث التي تنهى عن الدخول في الفتنة، وتأمر باعتزالها وأهلها تُكَرِّس الجبن والخور، وتُعين الظالم على ظلمه، وتُكرس الاستبداد السياسي، وهو ما يُتَهَم به الإسلام بألسن خصومه وأعدائه وأقلامهم.
إن العرب والمسلمون من أخبر الأمم بالفتن، لأن دينهم الحنيف وضحها لهم وأمرهم بلزوم الجماعة ووأد الفتنة، ولأن تاريخهم الطويل مليء بالفتن، ومع الأسى والأسف تعيش المنطقة حولنا في فتن كقطع الليل المظلم، وضحاياها أكثرهم من العرب والمسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يعافينا من التلبس بالفتن، وأن يرزقنا اتباع الحق { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } [آل عمران: 8] كما نسأله تعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يجنبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجمع القلوب على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب.
نسأل الله تعالى أن يقيني شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ويرفع الكرب عن المكروبين، ويفرج عنهم أجمعين، ويبدل خوفهم أمناً، وضيقهم فرجاً ومخرجاً.